حين نقرأ شهادة كاتب أجنبي في جريدة رصينة هي نيويوركر عن جرائم بشار الأسد في حلب، يمكن أن نفهم بدون أن نبرر ردود الفعل الانتقامية التي أقدمت أو قد تقدم عليها مستقبلاً، الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل جبهة النصرة وجند الشام – الكاتب في تلك الجريدة نقل صورة مرعبة عما يجري في تلك المدينة المنكوبة – أحد المتطوعين لدفن الجثث التي تسقط برصاص قناصة النظام، يقول إنه في أكثر من مرة، حاول أن يمسك بجثة أحد الشهداء ويسحبها من النهر، فتنقطع وتتفتت أطراف الجثة من طول بقائها وتعفنها في الماء، قناصة يختبئون في أماكن عالية، لا يمكن رؤيتهم منها، ويتم قتل كل روح متحركة تسير على الأرض، ويروي عدد من أهالي المدينة التي أضحت فيها مشاهد الموت اليومي مسألة مألوفة، عن سيدة كانت تهرول هرباً من الرصاص مع طفلتها، فتعثرت الصغيرة وسقطت، وحين حاولت الأم مساعدة ابنتها من كبوتها أصابتها رصاصة وقتلتها، ثم رصاصة أخرى من القناص لتجهز على الطفلة.
ويقول طبيب في مستشفى هناك، بعد أن سأله كاتب المقال عن أغرب حالات القتل اليومي، فيخبره الطبيب أنه شاهد جسد أصغر "كائن" يقتل برصاص قناص، وهو جنين، حين اخترقت الرصاصة بطن الأم لتصيب الجنين!
كما قلت، لم تكن تلك شهادة كاتب إسلامي سني، يتصيد على النظام العلوي، المرتدي لباس العلمانية ليغطي هويته الطائفية، ويكسب تعاطف القوميين والليبراليين واليساريين، إنما هي شهادة كاتب غربي في جريدة محسوبة على اليسار، وبالتالي لا يمكن إلا أن نطمئن إلى مصداقية الكاتب الذي خاطر بحياته ليكتب مثل تلك الشهادة المرعبة.
ما الثمن الذي يتعين على المدنيين السوريين دفعه في النهاية بحرب لا يبدو أن لها نهاية قريبة، فهي حرب أهلية طائفية، وهي حرب تحرير ضد نظام قمعي موغل بالوحشية، وهي حرب بالوكالة بين إيران وروسيا من جهة، ودول الخليج بدعم محدود من الدول الأوروبية وأميركا من جهة أخرى، وهي فتيل نار مشتعل أخذ يتمدد ليصل إلى العراق، ويقترب بسرعة إلى كل زاوية عربية تضج بالروح الطائفية والقبلية. إدارة الرئيس أوباما الحائرة في ضرب النظام السوري بعد تزايد التقارير عن استخدام النظام للأسلحة الكيماوية مترددة، فهي تخشى صعود الإسلاميين المتطرفين رفاق "القاعدة" إذا ما سقط النظام، وحتى لو وصل إلى الحكم جماعة معتدلة "نسبياً" مثل الإخوان، فأميركا ستتلقى لعنات الليبراليين واليساريين، ولها في مصر مثال قريب، وهناك، أيضا، الخوف الكبير، من تفتت الجسد السوري، وقيام دول الطوائف والقبائل، فليبيا والعراق مثالان حيان على ما ينتظر حدوثه في منطقة لم تشهد حتى الآن خلق الدولة الأمة ككيان موحد مستقل بهويته وتاريخه، ليس هناك أمل لغد قريب مفرح، ويظهر يوماً بعد يوم، أن منطقتنا العربية تمر بحرب المئة عام التي مرت على أوروبا في نهايات القرون الوسطى، ومهدت بالتالي، بعد معاهدة صلح وستفاليا، إلى قيام الدولة الأمة هناك… فلننتظر مئة عام من فوضى الحضارة والدمار والتخلف.
الشهر: أبريل 2013
بونودوتشيه
عندما قررت كتابة مقال عن مدينة فينيسيا الجميلة، في زيارتي الثالثة والأجمل لها، لم أعرف كيف ومن اين ابدأ، وتذكرت كلمات أغنية اشتهرت عام 1970 وغناها مطربون كثر، وكلماتها تقول Where do I begin to tell the story of how great a love can be, The sweet love story that is older than the sea, The simple truth about the love she brings to me, Where do I start
ففينيسيا، أو البندقية، كما نعرفها، مدينة تجمع بين الجمال والعراقة والتاريخ، كما أن دخول بيوت البعض من ساكنيها ومواطنيها وعشاقها، وما اكثرهم من مشاهير العالم، ليس كالخروج منها، فهنا تسمع الآهات إعجابا بما هم عليه من تطور وحب للفن والجمال، وتطلق التنهدات حسرة على أوضاعنا، وما أضعناه من وقت ومال على التافه من الأمور، من دون اهتمام لا بالثقافة ولا بالفن ولا بالتاريخ ولا حتى بأي شيء آخر غير استخراج النفط وصرف عائداته بغير حكمة ولا دراية، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أكمل جراد الثمانينات العقائدي المهمة وحطم اي أمل في إحراز أي نوع من التقدم المعقول وفي أي مجال كان، وبالتالي لا أدري من اين ابدأ في الحديث عن فينيسيا، التي تمتلئ بمتاحف الآثار والفنون المعاصرة والقديمة، وكنائسها القديمة والعريقة التي تخلب ديكوراتها الداخلية وتصاميمها الخارجية الألباب وما تتضمنه مبانيها من ثراء وتاريخ، فقد كان لفينيسيا، التي كانت يوما جمهورية، أو دوقية مستقلة، قبل ان تصبح جزءا من إيطاليا، تاريخ تجاري وحربي معروف، خصوصاً خلال الحروب الصليبية، وكانت جيوشها أول من استخدم البنادق الحربية في المعارك. وقد كتب عن البندقية الكثيرون وتغنى بجمالها الشعراء على مر العصور، ومنها رائعة شكسبير «تاجر البندقية»! كما اختارها مشاهير العالم من قادة وسياسيين وفنانين كبار موطنا لهم، وكانت طبيعتها الخلابة وجسورها وشوارعها المائية مصدر إلهام لأعمال فنية لا تعد، ولا أدري لم أطلق العرب عليها اسم «البندقية»، فليس هنا ما يفيدنا غير التخمين، فقد يكون السبب أنها كانت المصدر الأول للبنادق، أو ربما اشتقت التسمية من الإيطالية، حيث كان يطلق عليها «الدوقية الجميلة» أو الـ «بونودوتشيه» القريب لفظها من البندقية! وأخبرني سفير إيطاليا السابق أن التسمية ربما اخذها العرب عن الألمانية، حيث تعرف البندقية بــVendeg أو شيء من هذا القبيل! وقد انتشرت على الإنترنت حكاية، سبق أن تطرق إليها زميل، تقول إن مقهى فينيسياً يقوم بعض رواده بطلب فنجان قهوة ودفع ثمن فنجانين بحيث يكون الثاني بتصرف غير القادر على شراء فنجان الـ «اكسبرسو»، وهؤلاء يستدلون على توافر فنجان مجاني من علامة يضعها صاحب المقهى على الحائط الخارجي! وعندما سألت صديقة نصف «فينيسيه» عن حقيقة هذه القصة ضحكت وقالت باقتضاب: كبر عقلك، فالفينيسيون، بالرغم من الاختلاف الكبير في لهجتهم عن بقية «الطليان» إلا أنهم لا يختلفون عنهم في حرصهم على المال، كحال بقية الأوروبيين، وبعدهم عن السفه في الصرف!
أحمد الصراف
أيهما أشد إيلاماً.. السجن أم الغرامة؟
للإعلام الحر كالحال في الكويت دور خيّر في أي بلد، حيث يمنع الظلم ويحد من التجاوزات والسرقات ويشرك الناس في معرفة ما يدور في وطنهم كما يعرّف المسؤولين بما يدور في أذهان الشعوب، من ناحية أخرى يمكن للإعلام وخاصة الاجتماعي منه الذي يديره مواطنون عاديون غير مهنيين وغير مطلعين على قوانين الجزاء، ان يكون له دور سالب خاصة عندما يستهدف الوحدة الوطنية والطعن في الأشخاص أو العقائد وهنا تأتي الحاجة للتوعية وللنظام الذي يمنع الإسفاف ويرتقي بالأداء.
***
وبعكس ما يروجه ويردده كثير من الإعلاميين دون تفكير، بأن كل العقوبات مقبولة عدا سجن الإعلامي الذي قد يكون تعدى على الوحدة الوطنية أو مس بعقائد أو سمعة الآخرين، أرى شخصيا ان العقوبات المالية الباهظة هي الأكثر ظلما وأذى على الإعلام والإعلاميين من غيرها من عقوبات كعقوبة السجن التي يتعرض لها جميع المواطنين الآخرين من الوزير الى الخفير متى ما أخطأوا خاصة في حالة المكوث لمدد قصيرة في سجون الكويت المرفهة التي لا تعذيب ولا قتل فيها بل أصبح السجن المرفه الطريق الأسهل لإحراز المراكز الأولى في الانتخابات النيابية لمن تكرر إخفاقهم فيها وكم من ملسون أصبح نلسون.. مانديلا!
***
وإشكالية العقوبات المالية الباهظة التي لا يتكلم عنها أحد انها تضر بكل العاملين في المؤسسة الإعلامية المعنية ولا تقتصر العقوبة على الفاعل، حيث ان المؤسسة الإعلامية قد تتعرض للإفلاس والإغلاق أو تقليص اعداد ومزايا العاملين الآخرين فيها بسبب تلك الغرامات الباهظة التي قد تضطر الإعلامي المعني لبيع بيته ومن ثم الإضرار بأهله وعائلته دون ذنب اقترفوه، بل انك لو سألت بعض أقارب أحد الإعلاميين الذي أعرفه جيدا لفضلوا ربما ان يسجن كي يرتاحوا منه ومن حنته ورنته وأوامره اليومية التي هي أقرب لأوامر.. جوزيف ستالين أو صدام حسين!
***
آخر محطة: في الكويت حصدت الحكومة إعجاب وتصفيق رجال الإعلام الخاص وهي سابقة لم تحدث قط في تاريخ الكويت بعد سحبها لمشروع الإعلام الموحد.. برافو رئيس الحكومة وبرافو وزير الإعلام النشط.
القضية رقم 12
ذكرنا في مقال نُشر في 2011/12/1، ونقلا عن «أخبار اليوم» المصرية، أن وزارة العدل في مصر شكّلت لجنة تحقيق للنظر في الاتهامات التي طالت بعض جمعيات النفع العام، التي كان لها دور في ثورة 25 يناير، التي أدت إلى الإطاحة بحكم مبارك، بأنها ربما قد تكون تلقت أموالا من مصادر أجنبية! وأن الجمعية السلفية (أنصار السنة) حصلت من مصدرين خليجيين على مبلغ 296 مليون جنيه (50 مليون دولار)، جاء أكثر من ثلثها من الكويت! ولم تنكر الجمعية السلفية «التهم» حتى اليوم. وقلنا في المقال إنه تبين لاحقا أن تلك الأموال، التي كانوا ينكرون باستمرار تلقيهم لها من الخارج، هي التي مكّنتهم، ومكّنت جماعة «قارض الثورات الأكبر» في قطر، من خطف ثورة الشباب وتجييرها لحسابهم. كما ورد في الصحافة الكويتية أن مبالغ التحويلات المليونية هذه خرجت من حسابات «جمعية إحياء التراث السلفية» لحساب الحزب السلفي الأكبر والأكثر تطرفا في مصر! وحدث ذلك أمام سمع وبصر الحكومة الكويتية، وربما بعلمها – إن ثبت صحة ذلك – فهو إثبات دامغ على تدخّلنا في شؤون الدول الأخرى. فلا يُعقل أن تتمكن جمعية نفع عام، تخضع لرقابة الدولة الصارمة، من تحويل مثل هذه المبالغ دون علمها. وتساءلنا في المقال: من أين لجمعية كإحياء التراث مثل هذه الأموال الضخمة لتصرفها على حزب سياسي مصري متطرف يسعى للوصول إلى الحكم؟ ولماذا لا تنفق هذه الجمعية أموالها في الكويت، بوجود عشرات آلاف المحتاجين من المواطنين، وشبه المعدمين من «البدون»؟ أسئلة كثيرة ستبقى بلا جواب وتعزز سابق شكوكنا بدور بعض الأحزاب الدينية في تمويل الإرهاب خارج الكويت، وربما داخلها. – انتهى!
لم يُعجب هذا الكلام في حينه السيد طارق سامي السلطان، رئيس جمعية سلف الكويت، فقام برفع دعوى قضائية علينا، هي الثانية عشرة في تاريخنا الصحفي القصير، وقضت محكمة أول درجة بعدها ببطلان ادعاء الجمعية بحقنا. ولكن الجمعية التراثية السلفية، أو العكس، لم تكتف. بذلك، بل قامت باستئناف الحكم، وهنا أيضا قررت محكمة الاستئناف بطلان الادعاء، وقضت ببراءتنا ورئيس التحرير من تهمة الإساءة إلى الجمعية ورئيسها! والعجيب أن هؤلاء بدلا من أن يقوموا بعقد مؤتمر صحفي والرد على ما ورد في الصحف المصرية من اتهامات بحقهم، وكونهم من ممولي جماعات سلفية متطرفة في مصر وغيرها، قاموا برفع قضية علينا، مطالبين بمبلغ 5001 دينار كتعويض.
وبالمناسبة، لا يزال محاسب جمعية رعاية المرضى (!)، السلفية الإخوانية، الذي نهش من صندوقها، على مدى 4 سنوات، مبلغ 14 مليون دولار، دون أن ينتبه أحد من مسؤوليها الى السرقة، لا يزال محبوسا في قطر، دون أن تتمكن الكويت من استعادته لمحاكمته! وسبق أن ذكرنا قبل شهرين أن جهات عدة لا تودّ رؤية وجه هذا المختلس في الكويت لكي لا يتسبب في فضح دورها المريب في عملية الاختلاس التي استغرقت 1400 يوم دون أن «ينتبه» أي من مجلس إدارة الجمعية إليه!
أحمد الصراف
العدو الحقيقي للخليج
في الوقت الذي تنطلق فيه عجلة التطور التنموي واحترام الحريات الى الامام بكل قوة في معظم دول العالم، نجد التطور عندنا في الخليج ينطلق الى الوراء! حتى دول الربيع العربي انفتحت على شعوبها وحاورتهم وسمحت لهم بهامش كبير من حرية التعبير عن الرأي، ونجد هامش الحريات لدينا يتراجع بشكل كبير حتى أصبح بعض دولنا سجنا كبيرا لمثقفيها وسياسييها! ولعلنا لا نبالغ ان قلنا اننا في الكويت نعيش في دولة نصف شعبها يكاد يكون محالاً الى النيابة بسبب آرائه السياسية!
قد أكون مبالغاً شيئاً ما، وقد اكون متجنياً على دولنا الخليجية التي ينعم شعبها بالعيش الرغيد كما يقال، ولكن الحقيقة التي يدركها الجميع ان هامش الحريات قلّ كثيرا والتحول الى النمط البوليسي في الحياة العامة اصبح اكثر وضوحاً. ولعل التفسير المنطقي لهذه الظاهرة هو ان بعض الانظمة الحاكمة تخاف من وصول رياح الربيع العربي اليها فبادرت بضربة استباقية للتيارات السياسية الاسلامية بالذات حتى تقطع الطريق على اي احتمال لوصول رياح التغيير اليها.
الذي لا تريد هذه الانظمة ان تستوعبه هو ان جميع التيارات السياسية في الخليج، من دون استثناء، تدرك جيدا وتؤمن ان وجود الأسر الحاكمة اليوم امر حتمي للاستقرار في هذه الدول، وانه لا يوجد تيار سياسي واحد يفكر ولو للحظة باستبدال النظام الحاكم اليوم بنظام آخر، وان كل ما تطالب به هذه التيارات هو تطوير النظام السياسي بحيث يضمن مزيداً من المشاركة الشعبية ومزيداً من الحريات العامة، وان هذا التطوير المنشود يتم من خلال القنوات الشرعية المعمول بها من دون اللجوء الى وسائل غير مشروعة ومن دون الاستعانة باطراف وادوات خارجية. ان ما يحدث اليوم في بعض دول الخليج هو تراجع شديد في احترام حقوق الانسان وتقهقر للوراء في مستوى الحريات العامة، في الوقت الذي تتفاخر فيه الدول المتقدمة بريادتها في هذا المجال وتسعى الامم المتحدة والمنظمات الدولية الى اصدار التشريعات التي تعاقب الدول التي تنتهك هذه الحقوق ولا تحترمها!
لقد وصل الامر الى ان يتم الاعتقال وفقا للهوية والتوجه الفكري او السياسي! فان كنت تؤيد رياح الربيع العربي مثلا فانت ارهابي، وان كان لديك تواصل مع اي من التيارات الاسلامية التي بدأت تحكم دول الربيع العربي فانت تسعى للانقضاض على الحكم حتى ان تبين انك ارسلت مبلغا من المال لاسرة معتقل بعد ان انقطع بها السبيل باعتقال معيلها فان اسمك في قائمة المطلوبين في المطارات!
الذي يحز بالنفس ان التيارات العلمانية والليبرالية بدلا من ان تقف في وجه هذا التوجه الخطير وتخفف من الانحدار السريع في مجال حقوق الانسان نجدها تدعم الحكومات وتؤجج الشرر لمزيد من التضييق على الاسلاميين، متناسية مبادئها التي تنادي بها طوال سني كفاحها ونضالها! وكلنا يعلم انها ستؤكل كما أُكل الثور الابيض!
كلمة اخيرة لاخواننا في دول الخليج: العدو الحقيقي لكم ولدولكم ليس التيارات الاسلامية وليس التيارات السياسية، ان العدو الحقيقي هو الطائفية البغيضة التي تحكم ايران والعراق، والتي لن تتردد لحظة في الالتفات اليكم بعد ان تهدأ الامور عندها وترتب اوراقها مع أميركا وتعالج المشاكل العالقة والمسببة لتأجيل التوافق الأميركي – الإيراني. هذا هو الخطر الحقيقي، اما التيارات الاسلامية فهي السند الحقيقي والداعم للجبهة الداخلية وتوحيدها، فلا تفرطوا في الخل الوفي من اجل عدوّ جليّ.
ان غاية مطالب التيارات الاسلامية والقوى السياسية هي الحكم بالعدل وتطبيق القانون واحترام الحريات وحقوق الانسان ورعاية ثوابت الدين وعاداته وتقاليده، وهذه كلها تصب لمصلحة الحكم، حيث سينشأ مقابل ذلك حب النظام والمحافظة عليه والذود عنه، انها المعادلة الكونية البسيطة: احترمني احترمك… حافظ على كرامتي أحافظ على وجودك.
أقسموا بالطلاق…
أسهل وظيفة في الكويت هي وظيفة وزير، ولا أسهل منها إلا وظيفة رئيس وزراء… كل ما عليك فعله هو تصريح يفجر قنابل نووية: "سنقضي على مشكلة الإسكان في غضون ست وسبعين ساعة وأربعين دقيقة وعشرين ثانية"، و"سيتم حل مشكلة البدون خلال عطلة الويكند، وقبل مباراة يوفنتوس ومانشستر سيتي"، "اجتمع الوزراء بعد العودة من عرس أبو خلف، واتفقوا على إنهاء ملف مترو الأنفاق" ووو…
وتصريحات الوزراء في الكويت مثل "هرنات" سيارات التاكسي في مصر، كثيرة ومزعجة ومجانية. وهي عادة قديمة، توارثها الوزراء بعضهم من بعض، فمدينة الحرير "قرر مجلس الوزراء افتتاحها في عام ٢٠٠٥"، وراح ٢٠٠٥ وراح شقيقه ٢٠٠٦ و٢٠٠٧، وراحت أعوام بعدها، واختفت آثار أقدامها، ذرتها الرياح… و"استاد جابر سيتم افتتاحه عام ٢٠١٠" و"الحكومة الإلكترونية سيتم إنجازها عام ٢٠٠٨"، وها هي المواقع الإلكترونية للوزارات صفراء شاحب لونها، وغير ذلك من التصريحات التي تنطلق من الشرفة بوجود عصير الجزر المفيد للظهر.
ولأن أصوات الأعضاء الأحرار بحت وهي تحتج وترتج بسبب تأخر المشاريع، ولأن هذا البرلمان يُكتب ولا يُنطق، وقدرته كقدرة العجوز الكسيحة، ولأن الحكومة لا تحاسب وزراءها، ولأن الوزراء أهلكونا بكثرة وعودهم الهوائية، ولأن ولأن ولأن… لا أجد حلاً أفضل من أن يقسم الوزير قبل كل تصريح بالتالي: "علي الطلاق من أم فلان أن يتم الانتهاء من المشروع الفلاني قبل تاريخ كذا، وإذا لم يحدث فإن أم فلان تصبح مثل أختي وأمي"، بشرط حضور زوجته في المؤتمر الصحافي، وحضور أشقائها، فإذا كان لا يخشى هذا البرلمان، ولا يحترم الناس والإعلام ولا يستحي، فإنه على الأقل سيجد من يذكّره بالمشروع في كل يوم، حتى في غرفة نومه. وبدلاً من أن يخشى نواب البرلمان سيخشى أنسباءه أخوال عياله.
جربوها لعل وعسى، فإما أن تنهض الكويت وإما أن يطلق الوزراء زوجاتهم ويتفرغوا لقضايا النفقة. إلا إذا كان بعضهم يبحث عن عذر لتطليق زوجته فيرسم خطته، ويحرص على أن يتم توزيره، ويكون تصريحه الأول: "علي الطلاق من أم فلان الجالسة بجواري الآن، حفظها الله، أن أجعل الكويت أكثر ديمقراطية من النرويج قبل يوم الثلاثاء المقبل، وإذا لم يحدث فإن هذه الجالسة إلى جواري حرام علي، وهي طالق بالثلاث، والله الموفق".
قطة سعاد وكلب سعود
يعتبر البعض ان الاهتمام بالحيوانات، وخاصة الأليفة، نوع من الترف، أو حتى السخف، وأن من الأفضل الاهتمام بحاجات المعوزين والمرضى بدلا من الحيوانات، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن ليس بالمطلق، فمن الصعب أن يكون الإنسان رحيما بالبشر، إن كان قاسي القلب مع الكائنات الأخرى، التي لا تستطيع حماية نفسها وتتعرض يوميا لمختلف أنواع سوء المعاملة، فكيف يمكن أن يرأف قلب أحد على إنسان إن كان يصعب عليه إطعام قطة أو إيواء كلب مشرد يشكو من مختلف العلل؟
تقول القارئة سعاد انها فوجئت يوما، عند عودتها للبيت بوجود قطة جريحة على باب منزلها، وكان جرحها قديما لصدور رائحة كريهة منه، وأنها حاولت أن تطعمها ولكنها كانت أعجز من أن تأكل شيئا، وهنا قامت بالاتصال برقم الطوارئ 112، ولكنهم رفضوا فعل شيء. بحثت هنا وهناك عمن يمكن ان يقدم المساعدة، وبحثت حتى في غوغل، ولم تجد غير رقم لمستشفى بيطري في الوفرة وآخر في العبدلي! وطلبوا منها الحضور مع القطة لعلاجها، لأنهم لا يقومون بزيارات منزلية، وقالت انها شعرت بعجزها عن فعل شيء، فحاولت أكثر وحصلت على رقم هاتف طبيب بيطري من صديقة لها، ولكن هذا كان مشغولا، وهنا دلّوها على دلال الرشيد، وهي فتاة كويتية رائعة تطوعت بكل وقتها للعناية بالحيوانات الأليفة، وأنها حضرت لبيتها بالفعل خلال ربع ساعة ولكن بعد فوات الأوان، فقد ماتت القطة متأثرة بجراحها، وتبين لدلال أن سيارة قد صدمتها. وأخبرتها دلال انها تطوعت قبل سنوات للقيام بهذا العمال مجانا، وأنها تهدف لحماية الحيوانات من سوء الاستخدام والتعامل! والسؤال هنا: لماذا لا يوجد لدى الطوارئ ولو رقم طبيب بيطري واحد؟ ولماذا رفضوا مساعدة سعاد؟ ولماذا لا توجد جهة تتبع هيئة الزراعة مثلا تهتم بالحالات الطارئة؟ ولماذا يقسو مجتمعنا على هذه الحيوانات اللطيفة وغير المؤذية؟ وتتساءل سعاد: هل السبب أننا نشكو من قصور في إنسانيتنا؟ وأسئلة كثيرة اخرى لم أجد لها جوابا! وتقول سعاد في نهاية رسالتها ان على الجهات المعنية توفير معاملة افضل للحيوانات. وأن من يريد عناية أكثر لها فعليه مراجعة الموقع الإلكتروني: www.kspath.org أو الكتابة لدلال على عنوانها الإيميل [email protected] او إرسال فاكس 22443859 لطلب المساعدة.
أما سعود فيقول انه أسس عام 2005، مع مجموعة من المتطوعين، وغالبيتهم كالعادة من مواطنين ومقيمين من اصول غربية، الذين نسميهم بـ «الأجانب»، جمعية للرفق بالحيوانات. وأن الجمعية قامت منذ تأسيسها بإنقاذ آلاف الحيوانات الأليفة من التشرد والجوع والموت. ويقول ان أحد الخيرين قام قبل سنوات بإعطائهم أرضا في كبد لاستخدامها كمأوى، ولكنه مضطر الآن لاسترجاعها لحاجته اليها! ويقول ان عشرات الحيوانات اللطيفة والبريئة ستصبح قريبا من غير مأوى يقيها شرور البشر، وأن الحكومة، كالعادة، رفضت المساعدة!
وهنا نناشد الأخ جاسم حبيب رئيس هيئة الزراعة مساعدة هؤلاء في عملهم الإنساني. ونتمنى من أصحاب القلوب الرحيمة تقديم المساعدة المادية وغيرها لهذه الجمعية، أو التكفل بالعناية بأحد حيواناتها اللطيفة، وعنوان الجمعية على النت هو [email protected] كما يمكنكم الاتصال برقم 9064229 في حال وجود اي استفسار.
أحمد الصراف
هيا بنا… «تشليخ تايم»!
قبل عدة سنوات، عاش كاتب عمود يومي في أبواب أحد المنتديات الإلكترونية المليئة بالأسماء المستعارة، وصارت أبواب ذلك المنتدى وكأنها رافده الرئيسي الذي يستقي منه المعلومات والأفكار والمناقشات والمباحثات! فلا يكاد يمر أسبوع إلا واحتوت مقالاته على إشارات مذهلة لموضوعات أكثر إذهالاً يستقيها من ذلك المنتدى ويبني عليها… كان بالفعل كمن يحارب طواحين الهواء.
الغريب في الأمر هو: كيف أكل ذلك الكاتب الطعم الذي كانت تلقيه له مجموعة من الشباب المشاكسين بأسماء مستعارة، فيملأون رأسه بها ويحرقون أعصابه ويشتد وطيسه! فلا هو يناقش كاتباً معروفاً، ولا مؤرخاً ضليعاً ولا عالم دين له مكانة علمية واجتماعية! والأنكى من ذلك، كيف كان يصدّق ما يطرحه (الضاحكون عليه) دون استناد على أدلة أو قرائن وخصوصاً فيما يتعلق بالقضايا الفقهية الخلافية والموضوعات السياسية التي كانت تفرض نفسها على الساحة؟
الطريف، أنه بعد صولات وجولات، امتدت لشهرين أو ثلاثة، كتب شابٌ من أعضاء ذلك المنتدى باسمه المستعار كالعادة موضوعاً جعل ذلك الكاتب يتوقف! لا أتذكر النص تحديداً لكن مفاده هو أن ذلك الشاب قال بما معناه: «عجيب هذا الكاتب الفريد… كنت ألقي له الشلخة تلو الشلخة والمعلومة المغلوطة تلو أختها وكان يأكل الطعم بسهولة! مسكين حتى ما يرجع إلى المصادر الوهمية التي أقدمها لكي يتأكد… كنت أتسلى عليه وخصوصاً حين أقرأ مقاله بعد أيام وقد أكل الطعم بغباء».
بالطبع، مع التطور المذهل في تكنولوجيا الحاسبات الآلية، والتسارع غير المسبوق في منتجات شبكة الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والوسائط التي تصبح قديمة بعد فترة وجيزة من ولادتها نظراً لتسابق الشركات والمبرمجين في إنتاج البرامج، تطورت أيضاً ممارسات الكذب والخداع والتضليل الإعلامي والاجتماعي لدى فئات مختلفة من البشر ممن لا يجدون أي رادع ديني أو أخلاقي يمنعهم من نشر سمومهم. غير أن المسئولية هنا، ومع اتفاقنا على أن ذلك الفعل منكر ومرفوض شرعاً وعرفاً وخلقاً ومهنةً، تقع على المتلقي نفسه!
إن المصفاة (الفلتر) المطلوبة هنا لا يمكن إنتاجها تقنياً لتركيبها في عقول الناس، بل الناس بإمكانهم وبكل سهولة، أن «يفلتروا» ما يقع بين أيديهم من معلومات وأخبار وصور حتى لا يصيبوا قوماً بجهالة؟ كيف؟
«تشليخ تايم»، وفق ما يستخدمه الشباب من تسميات وصفية للحالات التي هم فيها: «أكل تايم… رياضة تايم… يمعة الأهل تايم… الخ»، هي شكل سيئ للغاية من أشكال البذاءة والابتذال والقول الرخيص لدى شريحة كبيرة من صغار العقول والطائفيين والحقودين والكذابين الذين، وطبقاً لنفسياتهم الخبيثة، يستخدمون أحدث برامج التصاميم والتسجيل ليصبوا جام غضبهم على من يخالفهم في الرأي، بل وربما صبوا أحقادهم على بلدٍ بأكمله أو طائفة أو ملة.
وليس التشهير بالشخصيات، رجالاً ونساءً، بمن فيهم علماء دين ومثقفون وناشطون حقوقيون وسياسيون وإعلاميون وغيرهم بغريب، حيث تمتلئ مواقع الكترونية وشبكات تواصل اجتماعي ومنتديات بكم هائل من العمل الخبيث بغية الكيد والتسقيط وتشويه السمعة. وعلى أية حال، فالعمل السيئ يحيق بأهله، ورأينا كيف أن بعض الأسود وأبطال الكيبورد وبضع مغردين (من طراز مخرخشهم) قد عبثوا وشوهوا وأساؤوا إلى الناس… ثم ما لبثوا أن انفضحوا على رؤوس الأشهاد، وفي الساحة ذاتها، ساحة الانتشار التقني عبر الحاسبات والألواح الإلكترونية وأجهزة الهواتف الذكية.
اليوم، نشهد في المجتمع البحريني أشكالاً متعددة من العبث الإعلامي الإلكتروني بدءاً من حسابات تويتر والفيسبوك والانستغرام مروراً بالمنتديات الإلكترونية وليس انتهاءً إلى حد! جماعات شغلت نفسها بتركيب الصور وتغيير محتوياتها للإساءة إلى الصورة الأصلية وأصحابها… جماعات أخرى تتعمد اقتطاع مشاهد متلفزة لتحوّرها على اليوتيوب كذباً وتضليلاً وخداعاً. آخرون شغلهم الشاغل هو بث الأكاذيب عبر نصوص البث (برودكاست) في المجموعات العنكبوتية على الهواتف الذكية. الغريب، أن هناك من الفئات المثقفة والمتعلمة من تستقبل وتقرأ ولا تقتنع بما وصلها لكنها… تعيد الإرسال! ويتلقى إنسان محترم فاهم عاقل الأكذوبة ويقوم بدوره بنشرها، وهكذا يشارك البعض في نشر الخبيث! وليس أصعب من أن تجد كاتباً أو مثقفاً، أو سمهم ما شئت، وقد صدقوا واستندوا وعمموا تلك الأكاذيب وأضافوا إليها من بنات أفكارهم المنحرفة الشيء الكثير المقزز الكريه.
(تشليخ تايم)… موضة دنيئة ابتكرتها نماذج ساقطة من المجتمع لتضليل الناس وخداعهم ونشر القذارات السيئة، لكنهم نجحوا في أن يملأوا رؤوس من استعد لأن يرمي بكل مقاييس الدين والأخلاق والكرامة ليفرح بسقوطه في قذارتهم… بس يا جماعة، الحوبة ما ترحم.
هل هناك حقاً سجناء سياسيون؟!
ضمن برنامج «مواجهة» الشائق على قناة الوطن، قرر المعدون مناقشة موضوع مهم هو «هل هناك معتقلون سياسيون في الكويت؟» وكان ضيوف الحلقة التي عرضت ليلة أمس وتعاد خلال الأيام المقبلة والتي يقدمها الإعلامي اللامع عبدالوهاب العيسى هم : النائب د.مشاري الحسيني والمحامي شريان الشريان والسفير جمال النصافي وكاتب هذه السطور.
***
والحقيقة ان ما تمارسه «بعض» القوى السياسية التي تحولت من مبدأ «كل استجواب بحساب» الى «كل خطاب بحساب برضه»، فيه زيف كثير وضرر كبير بسمعة دولة وشعب الكويت، وعكس لروح ديكتاتورية بغيضة ترسخت في عقولهم وسكنت قلوبهم، سنشهد بطشها وقمعها الشديد مع الثانية الأولى للتحول لمشروع رئيس الوزراء الشعبي والحكومة البرلمانية، حيث سينقسم شعبنا الطيب حينها الى سجناء سياسيين حقيقيين تضمهم معتقلات التعذيب تحت الأرض أو مهجرين لمشارق الأرض ومغاربها.
***
إن مصطلح «سجين سياسي» الذي يطنطن به البعض له تعريف محدد لدى منظمات حقوق الإنسان الدولية ويتلخص في انه السجين «دون تهمة جنائية» الذي يحاسب على معتقده وإيمانه السياسي لا فعله، وتتم محاكمته في محاكم لا ضمانات ولا محامين فيها ولا درجات تقاض، كحال المحاكم العسكرية والعرفية ومحاكم أمن الدولة المنتشرة في دول العالم الثالث وبالأخص الدول التي جعلتها بعض قوانا السياسية المثل الذي يجب ان يحتذى.
***
كما ينتهي حال السجناء السياسيين في تلك الدول «القدوة» لبعض قوانا السياسية الى سجون ـ الداخل لها مفقود والخارج مولود ـ وخير مثال على ما نقول محاكم الشعب والثورة وأمن الدولة في مصر وسورية والعراق وليبيا، وهي بلدان كانت تجرم الانتماء السياسي بذاته فيحاكم الشيوعي أو القومي العربي أو السلفي أو حزب الدعوة أو الإخوان المسلمين.. الخ، دون محامين امام محكمة رئيسها عسكري لا قاض كحال الصاغ جمال سالم في مصر والعقيد فاضل المهداوي في العراق ممن كانوا أكثر عداء وشراسة للمتهمين من النيابة العامة فهل هناك ممارسة كهذه في الكويت كي نتهم بوجود سجناء سياسيين فيها؟!
***
إن المتهمين في الكويت هذه الأيام لا يحاكمون على آرائهم ومعتقداتهم السياسية، حيث لا توجد تشريعات وقوانين تجرم المعتقد أو الانتماء السياسي للإخوان أو التكتل الشعبي أو التحالف الوطني أو التحالف الإسلامي أو المنبر أو السلف.. الخ. بدلالة أن زعامات تلك التوجهات جميعها حرة طليقة، ان ما يحاكم أمام المحاكم «العادية» ذات درجات التقاضي الثلاث وبوجود المحامين هو الشتم والإسفاف والتعدي على الآخرين والقفز على الدستور وتجاوز القانون واقتحام المباني العامة، فهل من العدالة بشيء أن يحاسب المواطن العادي اذا ما قام بتلك الأعمال المجرمة قانونا ويستثنى منضوي بعض القوى السياسية منها؟!
***
آخر محطة: (1) «كله بثمنه».. القضية سواء كانت أيام المجلس أو هذه الأيام ليست «وطنية» بل هي «مالية» ولو توقف مال الداخل والخارج لتوقف البعض فورا عما يفعله!
(2) دول بلدان الشرق الأوسط حرقت بالأمس وتحرق اليوم بسبب الأموال الطائلة التي تدفع لزعاماتها السياسية والوطنية والإعلامية وحتى الدينية، فهل غسلت الضمائر والقلوب في الكويت بالمطهرات الكاوية حتى باتت تعفّ عن تسلم المال الحرام وعمل ما عمله الآخرون؟.. لا أعتقد.
العودة للبندقية
يطلق على البندقية باللغة الإيطالية Venezia، أو بلهجة أهلها «فينيجيا»، وتقع مجموعة جزرها شمال شرق إيطاليا، وأصبحت منذ عام 827 جمهورية ذات نمط خاص، واستمرت دوقية لما يقارب الألف عام يحكمها دوق، أو شبه ملك منتخب، وساهم استقرارها في ازدهارها. يبلغ عدد سكانها اليوم 265 ألفاً، ويزيد زوارها ومن يسكنها من غير أهلها على عدد مواطنيها. تعد فينيسيا، التي تشتهر بلقب ملكة البحر الأدرياتيكي، نظراً لتراثها الحضاري والفني، بجزرها وبحيراتها وجسورها وقنواتها ومتاحفها وكنائسها الرائعة، وهي من أجمل مدن العالم، وهذا ما دفع منظمة اليونيسكو إلى تصنيف أغلبية مبانيها بالتراثية، والتي يعود بعضها إلى عصر النهضة، ولا يسمح حتى لأصحابها بإجراء أي تعديلات عليها من دون موافقة المنظمة والحكومة. ونسبة كبيرة من بيوت فينيسيا لم تتغير، خصوصاً من الخارج، منذ أكثر من 600 عام، وقد اُستضفنا في عدد منها. كما أن فينيسيا هي أكبر وجهة سياحية في إيطاليا، بعد روما، ويزور إيطاليا سنوياً 65 مليون سائح.
يقع المركز التاريخي للمدينة على مساحة 4 كيلومترات من اليابسة، ويبلغ عدد جزرها 118 جزيرة، عرض بعضها للبيع قبل سنوات بثمن زهيد، وأصبحت الآن لا تقدر بثمن. وبالرغم مما شكّلته فينيسيا من قوة بحرية وتجارية لفترة طويلة، فإن انهيارها كقوة عسكرية بدأ مع القرن الـ 15، ومع زيادة قوة الدولة العثمانية، وانتقال التجارة نحو الأميركيتين. وفي عام 1797، وبعد أكثر من ألف عام من الاستقلال، اضطر الدوق لودفيكو إلى التنازل عن السلطة لتصبح فينيسيا جزءاً من الإمبراطورية النمساوية البلغارية، قبل أن تصبح في عام 1866 جزءاً من مملكة إيطاليا. وقد عجزت فينيسيا، بسبب وضعها الجغرافي، عن أن تكون مدينة صناعية على الرغم من توافر أيد عاملة كبيرة فيها، وبالتالي أصبح التوسع فى المنطقة اليابسة هو الحل، وهكذا قام موسوليني، عام 1933، بتشييد جسر بري ربط الجزيرة الرئيسية باليابسة.
تؤثر حركة المد والجذر على أجزاء كبيرة من المدينة، وتلاحظ وأنت تسير في الكثير من شوارعها وجود طاولات مكدسة على جانب الطريق، وتعتقد بأنها وضعت لعرض البضاعة عليها، ولكن بالسؤال يتضح أنها تستعمل لسير المشاة عليها عند ارتفاع المد، وإغراقه أجزاء كبيرة من اليابسة، وهو الأمر الذي تسبب في إتلاف محتويات بيوت ومحلات كثيرة، ولكن كل شيء كان يبنى ثانية بإصرار عجيب، ورفض لمغادرة المدينة بالرغم من كل شيء، كما يشتهر أغنياء المدينة وأسرها التاريخية بعزوفهم الشديد عن بيع أي من ممتلكاتهم، بل يقومون بتأجير ما لا حاجة لهم به للراغبين فيها من الأجانب، وما أكثرهم. كما تلاحظ كذلك وأنت تسير في طرقات الجزيرة، والتي لا يتسع بعضها لمرور أكثر من شخصين، العدد الكبير من محال بيع الملابس الفينيسية المزركشة والفاقعة الألوان والأقنعة التنكرية، وسبب ذلك أن فينيسيا كانت تشتهر بهذا الفن الجميل الذي قدّمته للعالم، والذي طالما ألهم فنانين كباراً لوضع مقطوعاتهم الموسيقية العالمية، ورسوماتهم الشهيرة عنها.
غادرنا «فينيس» بعد أن تركنا بين جدران بيوتها العتيقة شيئاً من قلوبنا وعواطفنا، مع نية للعودة إليها، ولكن بمحفظة نقود أكبر! وأخيراً، شكراً لمن عرّفنا أكثر على هذه المدينة الرائعة.
أحمد الصراف