حسن العيسى

حرب المئة عام العربية

حين نقرأ شهادة كاتب أجنبي في جريدة رصينة هي نيويوركر عن جرائم بشار الأسد في حلب، يمكن أن نفهم بدون أن نبرر ردود الفعل الانتقامية التي أقدمت أو قد تقدم عليها مستقبلاً، الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل جبهة النصرة وجند الشام –  الكاتب  في تلك الجريدة نقل صورة مرعبة عما يجري في تلك المدينة المنكوبة – أحد المتطوعين لدفن الجثث التي تسقط برصاص قناصة النظام، يقول إنه في أكثر من مرة، حاول أن يمسك بجثة أحد الشهداء ويسحبها من النهر، فتنقطع وتتفتت أطراف الجثة من طول بقائها وتعفنها في الماء،  قناصة يختبئون في أماكن عالية، لا يمكن رؤيتهم منها، ويتم قتل كل روح  متحركة تسير على الأرض، ويروي عدد من أهالي المدينة التي أضحت فيها مشاهد الموت اليومي مسألة مألوفة، عن سيدة كانت تهرول هرباً من الرصاص مع  طفلتها، فتعثرت الصغيرة وسقطت، وحين حاولت الأم مساعدة ابنتها من كبوتها أصابتها رصاصة وقتلتها، ثم رصاصة أخرى من القناص لتجهز على الطفلة.
 ويقول طبيب في مستشفى  هناك، بعد أن سأله كاتب المقال عن أغرب حالات القتل اليومي، فيخبره الطبيب أنه شاهد جسد أصغر "كائن" يقتل برصاص قناص، وهو  جنين، حين اخترقت الرصاصة بطن الأم لتصيب الجنين!
كما قلت، لم تكن تلك شهادة كاتب إسلامي سني، يتصيد على النظام العلوي، المرتدي لباس العلمانية ليغطي هويته الطائفية، ويكسب تعاطف القوميين والليبراليين واليساريين، إنما هي شهادة كاتب غربي في جريدة محسوبة على اليسار، وبالتالي لا يمكن إلا أن نطمئن إلى مصداقية الكاتب الذي خاطر بحياته ليكتب مثل تلك الشهادة المرعبة.
ما الثمن الذي يتعين على المدنيين السوريين دفعه في النهاية بحرب لا يبدو أن لها نهاية قريبة، فهي حرب أهلية طائفية، وهي حرب تحرير ضد نظام قمعي موغل بالوحشية، وهي حرب بالوكالة بين إيران وروسيا من جهة، ودول الخليج بدعم محدود من الدول الأوروبية وأميركا من جهة أخرى، وهي فتيل نار مشتعل أخذ يتمدد ليصل إلى العراق، ويقترب بسرعة إلى كل زاوية عربية تضج بالروح الطائفية والقبلية.  إدارة الرئيس أوباما الحائرة في ضرب النظام السوري بعد تزايد التقارير عن استخدام النظام للأسلحة الكيماوية مترددة، فهي تخشى صعود الإسلاميين المتطرفين رفاق "القاعدة" إذا ما سقط النظام، وحتى لو وصل إلى الحكم جماعة معتدلة "نسبياً" مثل الإخوان، فأميركا ستتلقى لعنات الليبراليين واليساريين، ولها في مصر مثال قريب، وهناك، أيضا، الخوف الكبير، من تفتت الجسد السوري، وقيام دول الطوائف والقبائل، فليبيا والعراق مثالان حيان على ما ينتظر حدوثه في منطقة لم تشهد حتى الآن خلق الدولة الأمة ككيان موحد مستقل بهويته وتاريخه، ليس هناك أمل لغد قريب مفرح،  ويظهر يوماً بعد يوم، أن منطقتنا العربية تمر بحرب المئة عام التي مرت على أوروبا في نهايات القرون الوسطى، ومهدت بالتالي، بعد معاهدة صلح وستفاليا، إلى قيام الدولة الأمة هناك… فلننتظر مئة عام من فوضى الحضارة والدمار والتخلف.

احمد الصراف

بونودوتشيه

عندما قررت كتابة مقال عن مدينة فينيسيا الجميلة، في زيارتي الثالثة والأجمل لها، لم أعرف كيف ومن اين ابدأ، وتذكرت كلمات أغنية اشتهرت عام 1970 وغناها مطربون كثر، وكلماتها تقول Where do I begin to tell the story of how great a love can be, The sweet love story that is older than the sea, The simple truth about the love she brings to me, Where do I start
ففينيسيا، أو البندقية، كما نعرفها، مدينة تجمع بين الجمال والعراقة والتاريخ، كما أن دخول بيوت البعض من ساكنيها ومواطنيها وعشاقها، وما اكثرهم من مشاهير العالم، ليس كالخروج منها، فهنا تسمع الآهات إعجابا بما هم عليه من تطور وحب للفن والجمال، وتطلق التنهدات حسرة على أوضاعنا، وما أضعناه من وقت ومال على التافه من الأمور، من دون اهتمام لا بالثقافة ولا بالفن ولا بالتاريخ ولا حتى بأي شيء آخر غير استخراج النفط وصرف عائداته بغير حكمة ولا دراية، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أكمل جراد الثمانينات العقائدي المهمة وحطم اي أمل في إحراز أي نوع من التقدم المعقول وفي أي مجال كان، وبالتالي لا أدري من اين ابدأ في الحديث عن فينيسيا، التي تمتلئ بمتاحف الآثار والفنون المعاصرة والقديمة، وكنائسها القديمة والعريقة التي تخلب ديكوراتها الداخلية وتصاميمها الخارجية الألباب وما تتضمنه مبانيها من ثراء وتاريخ، فقد كان لفينيسيا، التي كانت يوما جمهورية، أو دوقية مستقلة، قبل ان تصبح جزءا من إيطاليا، تاريخ تجاري وحربي معروف، خصوصاً خلال الحروب الصليبية، وكانت جيوشها أول من استخدم البنادق الحربية في المعارك. وقد كتب عن البندقية الكثيرون وتغنى بجمالها الشعراء على مر العصور، ومنها رائعة شكسبير «تاجر البندقية»! كما اختارها مشاهير العالم من قادة وسياسيين وفنانين كبار موطنا لهم، وكانت طبيعتها الخلابة وجسورها وشوارعها المائية مصدر إلهام لأعمال فنية لا تعد، ولا أدري لم أطلق العرب عليها اسم «البندقية»، فليس هنا ما يفيدنا غير التخمين، فقد يكون السبب أنها كانت المصدر الأول للبنادق، أو ربما اشتقت التسمية من الإيطالية، حيث كان يطلق عليها «الدوقية الجميلة» أو الـ «بونودوتشيه» القريب لفظها من البندقية! وأخبرني سفير إيطاليا السابق أن التسمية ربما اخذها العرب عن الألمانية، حيث تعرف البندقية بــVendeg أو شيء من هذا القبيل! وقد انتشرت على الإنترنت حكاية، سبق أن تطرق إليها زميل، تقول إن مقهى فينيسياً يقوم بعض رواده بطلب فنجان قهوة ودفع ثمن فنجانين بحيث يكون الثاني بتصرف غير القادر على شراء فنجان الـ «اكسبرسو»، وهؤلاء يستدلون على توافر فنجان مجاني من علامة يضعها صاحب المقهى على الحائط الخارجي! وعندما سألت صديقة نصف «فينيسيه» عن حقيقة هذه القصة ضحكت وقالت باقتضاب: كبر عقلك، فالفينيسيون، بالرغم من الاختلاف الكبير في لهجتهم عن بقية «الطليان» إلا أنهم لا يختلفون عنهم في حرصهم على المال، كحال بقية الأوروبيين، وبعدهم عن السفه في الصرف!

أحمد الصراف