حين نقرأ شهادة كاتب أجنبي في جريدة رصينة هي نيويوركر عن جرائم بشار الأسد في حلب، يمكن أن نفهم بدون أن نبرر ردود الفعل الانتقامية التي أقدمت أو قد تقدم عليها مستقبلاً، الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل جبهة النصرة وجند الشام – الكاتب في تلك الجريدة نقل صورة مرعبة عما يجري في تلك المدينة المنكوبة – أحد المتطوعين لدفن الجثث التي تسقط برصاص قناصة النظام، يقول إنه في أكثر من مرة، حاول أن يمسك بجثة أحد الشهداء ويسحبها من النهر، فتنقطع وتتفتت أطراف الجثة من طول بقائها وتعفنها في الماء، قناصة يختبئون في أماكن عالية، لا يمكن رؤيتهم منها، ويتم قتل كل روح متحركة تسير على الأرض، ويروي عدد من أهالي المدينة التي أضحت فيها مشاهد الموت اليومي مسألة مألوفة، عن سيدة كانت تهرول هرباً من الرصاص مع طفلتها، فتعثرت الصغيرة وسقطت، وحين حاولت الأم مساعدة ابنتها من كبوتها أصابتها رصاصة وقتلتها، ثم رصاصة أخرى من القناص لتجهز على الطفلة.
ويقول طبيب في مستشفى هناك، بعد أن سأله كاتب المقال عن أغرب حالات القتل اليومي، فيخبره الطبيب أنه شاهد جسد أصغر "كائن" يقتل برصاص قناص، وهو جنين، حين اخترقت الرصاصة بطن الأم لتصيب الجنين!
كما قلت، لم تكن تلك شهادة كاتب إسلامي سني، يتصيد على النظام العلوي، المرتدي لباس العلمانية ليغطي هويته الطائفية، ويكسب تعاطف القوميين والليبراليين واليساريين، إنما هي شهادة كاتب غربي في جريدة محسوبة على اليسار، وبالتالي لا يمكن إلا أن نطمئن إلى مصداقية الكاتب الذي خاطر بحياته ليكتب مثل تلك الشهادة المرعبة.
ما الثمن الذي يتعين على المدنيين السوريين دفعه في النهاية بحرب لا يبدو أن لها نهاية قريبة، فهي حرب أهلية طائفية، وهي حرب تحرير ضد نظام قمعي موغل بالوحشية، وهي حرب بالوكالة بين إيران وروسيا من جهة، ودول الخليج بدعم محدود من الدول الأوروبية وأميركا من جهة أخرى، وهي فتيل نار مشتعل أخذ يتمدد ليصل إلى العراق، ويقترب بسرعة إلى كل زاوية عربية تضج بالروح الطائفية والقبلية. إدارة الرئيس أوباما الحائرة في ضرب النظام السوري بعد تزايد التقارير عن استخدام النظام للأسلحة الكيماوية مترددة، فهي تخشى صعود الإسلاميين المتطرفين رفاق "القاعدة" إذا ما سقط النظام، وحتى لو وصل إلى الحكم جماعة معتدلة "نسبياً" مثل الإخوان، فأميركا ستتلقى لعنات الليبراليين واليساريين، ولها في مصر مثال قريب، وهناك، أيضا، الخوف الكبير، من تفتت الجسد السوري، وقيام دول الطوائف والقبائل، فليبيا والعراق مثالان حيان على ما ينتظر حدوثه في منطقة لم تشهد حتى الآن خلق الدولة الأمة ككيان موحد مستقل بهويته وتاريخه، ليس هناك أمل لغد قريب مفرح، ويظهر يوماً بعد يوم، أن منطقتنا العربية تمر بحرب المئة عام التي مرت على أوروبا في نهايات القرون الوسطى، ومهدت بالتالي، بعد معاهدة صلح وستفاليا، إلى قيام الدولة الأمة هناك… فلننتظر مئة عام من فوضى الحضارة والدمار والتخلف.