ما الفرق بين الإيمان الغيبي الذي يكتسب من الطفولة، والطعام الذي نعطى ونحن صغار ونعتاد عليه، ونعتبره الألذ في العالم، ونشتاق له إن حرمنا منه لوقت طويل؟ الإيمان والتقاليد والعادات ونوعية الطعام تنشأ مع الإنسان، وتبقى معه مع تقدمه في العمر وتصبح جزءاً من شخصيته، وسيستمر ما بقي حياً في الميل والرغبة في طريقة نوم معينة أو طعام معين أو لباس أو طريقة فهم وفكر معينة، وكل ذلك يحدث ليس لأن هذه الأطعمة أو العادات والتقاليد والعقائد هي الأفضل، أو لمنطقيتها وصوابها أو فائدتها الصحية، بل لأنها أصبحت جزءاً من شخصية الفرد وكيانه منذ كان صغيراً، وبالتالي عشقه لها لا خيار له فيه، والأمر بالتالي لا يخضع لمنطق أو عقل! فمثلاً لا منطق حتماً في شوق الكثيرين من جيلي لوجبة حارة من حشرة الجراد، أو عشقنا للمجبوس، أو لدقوس الصبار، مع مربين يابس! ولا يمكن أن يرضى غالبيتنا باستبدال هذه الأطعمة بأخرى أكثر فائدة أو مشبعة أو أقل كلفة، فحب أو حتى عشق طعام أو فكرة محددة لا علاقة له بحسابات معينة! ولو أثبت عالم أو طبيب أن المجبوس وجبة سيئة وخطيرة، فغالباً سنتوقف عن تناوله، ولكن طعمه سيبقى تحت لساننا إلى الأبد، وسنشتاق له دوماً، وهذا ينطبق على العادات والأوامر والنواهي، فقد قابلت أشخاصاً في تركيا وماليزيا لا يعرفون شيئاً عن دين آبائهم وأجدادهم، ولا يمارسون أياً من طقوسه، ومع هذا لم يكونوا يقبلون فكرة تناول لحم الخنزير بتاتاً، لأنهم كرهوه وهم صغار! وبالتالي، فإن هذا النوع من المحبة أو الكره ثقافة وراثية لا علاقة لها بالمنطق، وهو ما يسمى بـ «الإيمان الأعمى» الذي يبني بسبب علاقات الدم البيولوجية، ويخلو تماماً من الوعي! وقد ظلم جيلنا، جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، أيما ظلم، كما طال الظلم أجيالاً بعدنا، عندما أجبرنا على حفظ النصوص الدينية عن ظهر قلب دون فهم أو مقارنة نصوصها بالعقائد الأخرى، وكان النقاش ولا يزال محرماً في مثل هذه المسائل، ربما لتواضع مستوى غالبية مدرسي المواد الدينية، الذين لم يعتادوا على التفكير الحر أصلاً، فكيف بالنقد والتحليل. وبالتالي، وجدنا أننا أصبحنا بعقولنا وقلوبنا مشربين بأفكار وتقاليد لا نعرف عنها الشيء الكثير، ومع هذا كان الكثيرون على استعداد للموت في سبيلها وقتل الآخر دفاعاً عنها بالرغم من عدم معرفتهم ما يكفي عنها غير ما توارثوه عن آبائهم! ولكن هؤلاء أنفسهم على غير استعداد لقتل ما يهاجم «المجبوس» أو يقتل الجراد أو يكره الدقوس، مع أن عامل الوراثة، وليس العقل، هو العامل الرئيسي والوحيد المسيطر هنا في تشكيل هذه الخيارات وترسيخها! وما ينطبق على المتشددين دينياً، ولأي عقيدة انتموا، ينطبق على أتباع أي فكر تسلطي، كما رأينا ولا نزال نرى في الدول الشيوعية والدكتاتورية. وليس غريباً بالتالي أن نرى أن الأحزاب «العقائدية» تحرص عند وصولها إلى الحكم، على السيطرة على نظام التعليم لكي تقوم بتشكيل عقول أجيال المستقبل حسب رؤاها ونظرتها للأمور، ولما تؤمن به من أفكار وعقائد!
أحمد الصراف