كما ذكرتُ قبل أكثر من قرنين من الزمان في هذا العمود أو في عمود آخر في صحيفة أخرى، لم أعد أتذكر: "الصحف ونشرات الأخبار الرسمية لا تنقل إلا ما يبرز على السطح فقط". قلت هذا وما زلت أردده. واليوم أقول: "دع عنك تحليلات المحللين وتعليقات المعلقين، وتخلّص من تنظيرات المنظرين، وسلط مجهرك على أسئلة الأطفال وخيالهم وكلمات كبار السن إذا أردت معرفة ما تكنه القلوب، وقياس مستوى الغضب والرضى في صدور الشعوب".
وإذا كانت أسئلة الطفل في السابق عن السيارة والطائرة، أيهما أقوى، وإذا كانت أحاديثه في السابق وقصصه عن الشياطين وعن طرزان الذي هو أسرع من النمر وأقوى من الأسد وما شابهها من القصص، فإن حديثه اليوم سياسي من دون أن يعرف، وأسئلته أمنية من دون أن يدرك، وكلها تدور حول ما يحدث اليوم، حول مسلم البراك والشرطة، وكيف فعل وكيف فعلوا، وعن شقيقه الأكبر، شقيق الطفل، المشارك في المسيرات، الذي عاد إلى البيت بإصابته، وعن ابن عمه الذي تم القبض عليه، ووو…، وكلها خيالية، لكنها عن الوضع السياسي والأمني، فهو ما يسيطر على عقله واهتمامه اليوم.
كذلك الحال بالنسبة إلى شيباننا من الجنسين، الرجال والنساء، الذين بانت على وجوههم آثار أقدام السنين، بعد حل وترحال. كانت مصطلحاتهم: "الله لا يغير علينا" و"الحمد لله نعيش في أمان وطمان"، يقصدون "اطمئنان"، فدُفنت اليوم مصطلحات الرضى والسكينة تلك، واستُبدلت بمصطلحات الغضب والتذمر والدعاء على كل فاسد ووو… والأهم، الشعور بالغبن والقهر لغياب العدالة.
ولو كنتُ قريباً من دائرة القرار، لصرخت بالخط العريض: "الغضب الشعبي يزداد"، فإن لم يسمع صوتي أحد، حملت مزودتي على ظهري، وهاجرت إلى أميركا اللاتينية، إلى أبعد نقطة في هذا الكوكب.
ولأنني بعيد عن القرار ودوائره ومثلثاته، أقول دون تفكير في أميركا اللاتينية: "إذا كانت رعاية البعض لجويهل في السابق قد أنتجت لنا جيلاً من الشبان الحانقين، فإن ما يحدث الآن سيجعل من تماسك من الشبان سابقاً يسارع إلى قافلة الحنق، وتزاحمه أجيال من البزران والشيبان".
لا تزرعوا الحنق في بساتيننا… لا تزرعوا الحنق.