كنت دائم الشك، كغيري، في أسباب تسامح سلطات بريطانيا مع الأصوليين الإسلاميين المقيمين فيها، وخاصة من العرب الذين لجأوا اليها هربا من بطش حكوماتهم، بالرغم من كونهم مصدر إزعاج مستمر للسلطات وخطرا دائما على المجتمع البريطاني، إضافة إلى ما يتكلفه دافع الضرائب من مبالغ ضخمة للصرف عليهم وتوفير الحراسة لهم ولأسرهم الكبيرة، حيث يعيشون جميعا عالة على مؤسسات الضمان الاجتماعي! وزادت شكوكي في السنوات التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر بعد أن ازدادت شراسة الأصوليين، ومنهم ناشطون سياسيون وأئمة مساجد ودعاة، في التصريح بمعاداتهم للغرب. كما بينت الكثير من الأحداث الإرهابية التي وقعت في بريطانيا أن غالبية مرتكبيها كانوا، بطريقة أو بأخرى، على صلة بهؤلاء الدعاة والأئمة الذين لم يترددوا يوما في إظهار احتقارهم للمجتمع البريطاني وعاداته، وعندما كانوا يسألون عن سبب بقائهم فيها مع كراهيتهم لها كانوا يردون بالقول انهم هناك لقضاء الحاجة، كمن يدخل المرحاض لقضاء حاجة!
ولكن شكوكي تأكدت، إلى حد ما، مع صدور كتاب «العلاقات السرية، تواطؤ بريطانيا والإسلام المتشدد» للباحث والكاتب البريطاني مارك كيرتس، الذي يقول فيه انه فكر في كتابه بعد التفجيرات الدامية التي تعرضت لها لندن في عام 2005، وانه قضى أربع سنوات في دراسة الوثائق السرية في الأرشيف البريطاني التي أفرجت عنها الحكومة. ويقول كيرتس في كتابه ان تمويل بريطانيا لحركة الإخوان المسلمين في مصر بدأ منذ عام 1942، وان الحكومة المصرية كانت تصرف لهم إعانات بإيعاز من البريطانيين، كما كانت سفارتهم تدفع لهم مباشرة، وان حسن البنا لم يعارض قيام سلطات شركة قناة السويس، الفرنسية البريطانية، ببناء مسجد «ضرار» في مدينة الإسماعيلية، مهد الإخوان.
وفي عام 1956 ومع العدوان الثلاثي، نشطت اتصالات البريطانيين بالإخوان ضمن مخطط الإطاحة بناصر أو اغتياله. ووفق الوثائق، فإن جماعة البنا كانوا الأكثر حظا لتشكيل الحكومة الجديدة بعد إسقاط نظام عبد الناصر. وأثبت الباحث أن الجماعة تواطأوا في منتصف الخمسينات مع لندن لاغتيال ناصر! وفي رد على سؤال لجريدة «الشرق الأوسط» بمناسبة صدور كتابه، قال ان علاقات الإخوان بلندن زادت قوة مع صعود المد القومي في مصر في السنوات 1952 – 1970، وتمثلت آخر أشكال تعاون بريطانيا مع الجماعات الأصولية، وربما الشيعية هذه المرة، في قيام بعضها بتأمين خروج آمن لقواتها من البصرة عام 2009.
وقال المؤلف ان لندن طالما رعت مؤتمرات للجماعات الأصولية، وخاصة تلك التي كانت معارضة لحكم صدام حسين، ومنهم الإخوان. كما رعت مؤتمرات جماعات معارضة للنظام السوري وعلى رأسهم الإخوان. ويؤكد كيرتس أن لندن لا تزال تستخدم القوى الأصولية، وتحرص على تطوير علاقاتها مع إخوان مصر وسوريا ودول أخرى، لتأمين نفسها عند تغيير نظام الحكم في القاهرة أو دمشق.
ويقول الباحث ان الحكومة البريطانية غيرت مواقفها من أصوليّي الحركات الإسلامية وطردت البعض وسجنت أو قيدت حركة آخرين بعد أن أصبحت نفسها هدفا للإرهاب، بعد أن كانت توصف بــ «لندنستان» لاحتضانها المستمر للجماعات الأصولية، فقد كان التفاهم في السابق أن السلطات تتيح للجماعات الراديكالية العمل في بريطانيا بحرية طالما أنها غير مستهدفة، وهو ما يسمى «ميثاق الأمن»، الذي كان بمنزلة ضوء أخضر من «الخارجية» البريطانية للإرهاب في جميع أنحاء العالم. إلا أنه أعرب عن اعتقاده أنه من الممكن تفسير التسامح الحالي من جانب النخبة البريطانية مع الجماعات المنشقة لرغبتها في استغلال هذه الجماعات في مصلحة سياساتها الخارجية، وهذا ما قام المؤلف بتوثيقه في كتابه، حيث يقول ان هذا التسامح يمكن أن يساعد كدعامة أو بطاقة تفاوض مع حكومات أخرى! وأن لبريطانيا مصلحة دائمة في الحفاظ على الانقسامات في منطقة الشرق الأوسط وجعلها تحت سيطرة سياسية منفصلة، ويعد ذلك إحدى صور سياسة «فرّق تسد» الدولية التي كان يُنظر إليها على أنها مهمة من أجل ضمان أنه لا يوجد هناك أي قوة فاعلة وحيدة في الشرق الأوسط مسيطرة على المنطقة، لاسيما ثروات النفط، ضد رغبات لندن أو واشنطن. وهذا شعار يتكرر في ملفات الحكومة على مدار عقود كثيرة.
أحمد الصراف