محمد الوشيحي

هذرلوجيا


اقتحمتُ غرفته دون أن أطرق الباب، بدفاشتي المعتادة. أدرتُ مفاتيح الأضواء كلها، وصرخت فيه كما يصرخ ضباط طابور الميدان بنبرة جافة: «انهض»، فاستيقظَ المسكين بتأفف وكسل، ثم تمتم وهو يحمي عينيه بكفّه من نور الإضاءة: «يالله صباح خير، عسى ما شر؟»، فواصلت صراخي: «طالت فترة نومك، وحان وقت الكتابة»، فواصل تمتمته المتذمّرة: «يا أخي مَن منعك من الكتابة؟»، فنزعت بطانيته وألقيتها هناك، وقلتُ وأنا أرفع رأسه من على مخدته: «أحتاج إليك. لا أريد أن تكون مقالاتي مثل الدخان الملون الذي تنفثه الطائرات الاستعراضية، وسرعان ما يتلاشى»، فسخرَ: «إذاً تريد أن تنفث مقالاتك بدلاً من الدخان الملون صواريخ مدمّرة»، قلت وأنا أفتح شبابيك غرفته: «وقنابل نووية إن أمكن»… فنهض خيالي المرهق، وراح يعيد ترتيب شعره المنفوش ويردد جملة الفاكهاني المصري: «يا فتّاح يا عليم يا رزاق يا كريم».

لحظات قليلة قضاها خيالي يغتسل ويعدّل هندامه قبل أن ينضم إلينا، أنا والورقة والقلم وفنجان القهوة العربية الشقراء وعلبة الدخان، وما كاد يستوي في جلسته حتى كرّر سؤاله الممجوج: عن الفشل والتشاؤم والإحباط والدموع ستكتب كعادتك؟، فأجبته: أنت تذكّرني بحكاية الفنان بيكاسو، عندما رسم لوحة لمدينته المدمّرة، لم يذيّلها بتوقيعه، فأبهرت الناس وأذهلتهم، وتداولوها بينهم، فقبض عليه الفاشيّون، وسأله ضابط التحقيق وهو يشير إلى اللوحة: «أنت من فعل هذا؟»، فأجابه: «لا. بل أنتم»… وأنا لم أزرع التشاؤم ولا الإحباط ولا الدموع في قلوب وعيون الناس، الحكومة ونوّابها وكتّابها هم الذين فعلوا هذا. أنا مجرد حكواتي، أو «كتباتي» إن أردت الدقة، أو رسّام، أو مصوّر يلتقط الصور من زاويته الخاصة وبكاميرته الخاصة، ومن الظلم محاكمة الصورة بتهمة بشاعة المحتوى وكآبة المنظر.

زحزح الخيال كرسيه واقترب مني هامساً: «الضباع تكمن لك خلف الجدار، تنتظر منك زلة، كي تهاجمك وتلتهم رأسك»، قلت مصححاً معلومته: «الضباع لا تهاجم الأحياء عادة، هي تأتيك غدراً بعد مماتك أو أثناء نزفك مصاباً، وأنا لست ميتاً ولا مصاباً، ثم إنها لا تلتهم الرأس، بل تفضّل البطن والأمعاء ومجمع الدماء، أجلك الله. الأسد هو من يأكل الرأس ويلتهم الأذرع والأرجل، ويقرف من البطن والأمعاء، لأنفته وشموخه». قال: «الناس تلحلحت والرزق يحب الخفّية، فهذه منحت زوجها منصب وكيل وزارة، وذاك حصل على عقد مليوني، ووو، وأنت وأشباهك مصرّون على ترديد النشيد الوطني وارتداء القبعة لتوهموا الناس أنكم أحفاد الثائر تشي غيفارا. ثم يا سيدي هل هذا هو جزاء الحكومة التي درّستك وعلّمتك، فلما اشتدّ ساعدك رميتها؟».

قلت: «دونك فصيلة دمي لتتأكد أنني لست من أحفاد الأرجنتيني تشي غيفارا، بل من أحفاد البدوي حمد بن وشيح، أما عن حكاية تدريسي وتعليمي فسأردد معك كلمات الشاعر الصعيدي الرائع هشام الجخ (طب كنتو ليه بتعلّمونا نحفظ البِرّ وجمايلُه، طب كنتوا ليه بتعلمونا نكره الظلم وعمايلُه، لما انتو ناووين تسجنونا ف أرضنا، كان ايه لزوم العلم ورموزه ومسايلُه؟ مش كنتو سبتونا بهايم كنا نمنا مرتاحين؟).

طال الجدل بيننا فأشعلت سيجارتي ورسمت بدخانها خطاً ينهي الحوار: «حلّق وأنت ساكت»، فرفع أصبعه محتجاً: «قل (لو سمحت)»، قلت: «تستاهل… لو سمحت»، فتبسّم وفرد جناحيه يتفقدهما استعداداً للقادم من الأيام والمشاكل والنكبات…

❊❊❊

لم أجد عنواناً للمقالة هذه أفضل من «هذرلوجيا»، وهي الزمرّدة التي كان يزيّن بها الصعلوك النبيل سليمان الفليّح عنق زاويته في جريدة «السياسة»، في سالف العصر والأوان. وآه ما أجمل ذلك الصعلوك.

الآن، عمنا الصعلوك يكتب في جريدة «الجزيرة» السعودية… لكن، ومن دون زعل، أظن أنه ترك خاتمه وجنونه وقلبه وشقاوته هنا، وأحرق ابتساماته، قبل أن يغادر الكويت مجروحاً، فابحثوا عن خاتم سليمان وجنونه وبقية أدوات شبابه علّكم تجدونها فتبشّرونه فيعود إلينا ضاحكاً فوضوياً كما كان.

افتقدناك… سليمان.

❊❊❊

النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، الشيخ جابر المبارك، أمر برش «معطّر جو» في فضاءات الكويت بعد أن أزكمت أنوفنا روائح بعض الإعلاميين… شكراً أيها الكبير. 

سامي النصف

هل نحن في حاجة لأميركا؟!

مازالت الكويت بلدا صغيرا وسط منطقة شديدة السخونة يمتلئ تاريخها الحديث بوفرة الحروب والاحتلالات الجائرة، حيث لا يبالي أحد بالقرارات الدولية بل ما يحترم هنا هو منطق القوة فقط، ولسنا في هذا السياق أكبر وأقوى وأكثر منعة من بريطانيا العظمى وألمانيا وكوريا واليابان وغيرهم ممن يوفرون للولايات المتحدة القواعد العسكرية ويرتبطون معها باتفاقيات عسكرية منذ عقود عادت عليهم بكثير من المنافع والمكاسب.

ولسنا شخصيا من المستفيدين من عطايا أميركا ووكلائها وصفقاتها المليارية التي عادة ما تمنح لمن يدعي عداءها ويطرب أسماعها بشتائمه وحروبه الصوتية ضدها حتى كتب الصديق خير الله خير الله ذات مرة أن أميركا تدعم بالدرجة الأولى من ينادي بـ«الموت لأميركا».

لذا فالقضية هي في البدء والمنتهى النظر لمصلحة الكويت والدوران حيث تدور، ومن ذلك فنظرة منصفة للفارق بين العشرين عاما التي سبقت الغزو ونعني 1971 ـ 1990 والتي امتازت بالعداء الشديد لأميركا بتأثير من الثوريات العربية عالية الصوت، والعشرين عاما التي تلت التحرير ونعني حقبة 1991 ـ 2010 والتي سادتها علاقات الود والصداقة الوثيقة مع الولايات المتحدة، تجعلنا نلحظ الفوارق التالية:

سياسيا… أصبحنا احدى الدول القليلة في محيطنا العربي التي تحررت من الاحتلال في أقصر مدة وأصبحت تحتفل بانتصار «حقيقي» مقابل الانتصارات الوهمية والكاذبة لأصحاب الأصوات العالية، وعلى رأس تلك الانتصارات بالطبع «أم المعارك» الخالدة التي تحولت مع العهد الديموقراطي الجديد في العراق إلى «أم كل الهزائم» حتى بلغ الخجل منها عدم تضمينها المناهج الدراسية العراقية.

اقتصاديا… ارتفع سعر النفط إبان صداقتنا مع أميركا إلى أرقام فلكية لم نكن نحلم بها قط قبل عام 90 عندما انخفض سعر النفط الى 6 دولارات علما بأن الثوريات العربية «الصادمة» ادعت أن أميركا حررت الكويت للحصول على النفط الرخيص (!) وكي تتصدر الكويت الدول المعترفة بإسرائيل(!)، كما ساهم إسقاط صدام في تحريك مشاريع التنمية في البلد والمنطقة وأصبحنا نشهد ناطحات السحاب ومجمعات الأسواق الضخمة في كل مكان.

أمنيا… اختفى ـ إلا ما ندر ـ ما كنا نعانيه من عمليات إرهابية في حقبة ما قبل عام 90 والتي شملت محاولات اغتيال المسؤولين وتفجير الدور الصحافية وتدمير المقاهي الشعبية واقتحام السفارات وخطف الطائرات…إلخ، حيث شعر من يقف وراء الإرهاب بأن تعريض أمن الكويت للخطر يعني المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة وهي مواجهة لا يريدها أحد.

آخر محطة: طارق عزيز يطالب ببقاء القوات الأميركية في العراق حتى لا تأكله «الذئاب» ولدينا من يطالب بخروجها حتى يلتهمنا المتربصون… هزلت!

احمد الصراف

ما هي علاقتنا بالحضارة؟

تتمثل حضارة اي مجتمع في تقدمه زراعيا وتجاريا وفي توافر الوظائف المتخصصة، ووجود صور مدنية واضحة، كما تتمثل الحضارة غالبا في تقدم مجموعة عوامل اخرى كالمواصلات والانظمة الادارية والكتابية والنقدية والقضائية، والفنون الرفيعة والرياضيات والمعالم الجمالية كالنصب التذكارية، هذا ما ورد في احد المصادر، ولكني وجدت ان تعريف قاموس «التراث الاميركي»، الذي لفت الدكتور كامل النجار نظري إليه، اكثر دقة، حيث يعرّف الحضارة بأنها: حالة متقدمة من التطور العقلي والثقافي والمادي في مجموعة بشرية من علاماتها التقدم في مجالات الفن والعلوم وانتشار التدوين، بما في ذلك الكتابة، وظهور انظمة سياسية واجتماعية متقدمة.
ولو قمنا بتطبيق هذه التعريفات على بعض ما يطلق عليه «حضارات» لوجدنا ان عددا منها لا يستحق ذلك، فلا توجد حضارة هندوسية او بوذية او يهودية او اسلامية او مسيحية، بل توجد حضارات ترتبط بمناطق جغرافية محددة، وضمن شعب محدد، كالحضارات الفرعونية والبابلية والصينية والهندية وغيرها.
وبالتدقيق في تعريف قاموس التراث الاميركي American Heritage نجد ان التدوين هو من سمات الحضارة، وكمثال على ذلك كتاب Doomsday وهو كتاب مسح احصائي امر الملك «وليم الاول» في عام 1086 بتدوينه، لشكه في مستشاره المالي، لكي يتضمن حصرا لممتلكات رعيته من ارض وماشية ودواجن وغير ذلك، وتقدير قيمة لها لغرض فرض الضرائب العادلة عليها، وسبب تسميته بكتاب يوم الحساب او القيمة هو ان احكام الضرائب فيه نهائية وغير قابلة للاستئناف. ويعتبر المؤرخون هذا الكتاب الاول في تاريخ البشرية الذي يحدد من يملك ماذا، ويعتبر نواة نظام «حقوق الملكية».
كما توجد في كل الكنائس، شرقا وغربا، سجلات قيد يعود تاريخها لعمر ارشيف تلك الكنائس او اكثر حتى، وهي السجلات الخاصة بتوثيق عقود الزواج التي اجريت فيها، والتي يمكن العودة إليها بعد مئات السنين لمعرفة من تزوج، واسماء اقرباء كل طرف، وقد كانت هذه السجلات النواة التي بنى عليها الروائي ألكس هيلي قصته الشهيرة «الجذور»، حيث اصبح بإمكان احفاد المهاجرين الى اميركا العودة لمواطنهم الاصلية، سواء في اوروبا او افريقيا والبحث في سجلات الكنائس عما يتعلق بجذورهم، وهذا ما لا يمكن ان يحصل بين أغلبية مواطني الكويت مثلا، الذين هاجر اجدادهم من قرنين او اكثر الى الكويت من عدة مناطق، فأليكس هيلي لا يعيش بيننا، وعقود الزواج وحتى نصف قرن مضى لم تكن توجد ابدا، لاننا شعوب شفهية، والدليل ان اكثر كتبنا قدسية واحتراما لم يجر تدوينها الى بعد عقود عدة وبعضها بعد اكثر من 200 سنة كالصحاح الست، وغيرها الكثير.
كما توجد في انكلترا سجلات دقيقة لحالة الطقس ودرجات الحرارة يعود تاريخها لاكثر من 230 سنة، مع آلاف السجلات الاخرى الاكثر او الاقل قدما، والتي تحتوي على معلومات مهمة عن الطيور، انواعها وهجراتها والحشرات والنباتات والغلال والزهور بانواعها وحيوانات البيئة الاخرى وغير ذلك الكثير.
وعليه، فإن غياب التدوين لدى اي مجموعة بشرية يعني بصورة مباشرة غيابها عن الحضارة! ولا أعتقد ان البعض سيرضى بهذه النتيجة، بالرغم من ان غيابها ربما يكون في مصلحة صحتنا النفسية، لكي ننسى ما اقترفته ايدي الكثيرين منا من إجرام في حق بعضنا البعض طوال قرون عديدة.

أحمد الصراف

مبارك الدويلة

الازدواجية.. والحل المشروط

في مقالات سابقة لي تحدثت عن حلول مقترحة لبعض المشاكل التي يعاني منها البلد، وبالتالي يعاني منها الناس، مثل مشكلة البدون ومشكلة الازدحام المروري ومشكلة الانفلات الامني، وظاهرة الجو الحار المغبر، وعلقت على اقتراح الاخت الفاضلة اميمة العيسى للتخلص من الغبار وتخفيف شدة الحر، وكان آخر كتاباتي رؤية في حل مشكلة الازدواجية في الجنسية.
وهذه الاخيرة هي التي اثارت ضجة عند البعض حتى ظنوا انني «مزدوج»! وبما انني لست كذلك، فان هذا لا يعني ان اتعامل مع الوضع وكأنه لا يهمني بشيء، فأنا جزء من هذا المجتمع، اشعر بما يشعر به سلبا وايجابا.
البعض منا يعالج المشاكل بالبتر والجز، يعني يقطها من عرجها، وهذا قد ينفع عندما تكون المشكلة حديثة الوقوع، وليست لها فروع هنا وهناك، لكن ازدواجية الجنسية منتشرة في المجتمع الكويتي كانتشار الشرايين والاوردة في جسم الانسان، لذلك اي محاولة لقطع هذه الاوردة بشكل مباشر ستؤدي الى شلل الجسم ومشاكل بالدورة الدموية.
فالمزدوجون حصلوا على الجنسية الاخرى (في الغالب) بعد حصولهم على الجنسية الكويتية، اما لسهولة الحصول على «الاخرى» واما لقوانين بعض الدول التي تلزم من يولد عليها بالانتماء اليها. واغلب هؤلاء استفادوا من هذا الوضع بالحصول على املاك في تلك الدول، وعدد منهم حصل على وظيفة وراتب مع ان التزامه اليومي في بلده الكويت الذي يسكن فيه وهو موظف عام فيه!
هذا الوضع خطأ لا شك فيه! وهذا الخطأ يتحمله المواطن بلا شك! كذلك سكوت الحكومة طوال تلك السنين، وهي تعلم او قادرة ان تعلم حجم هذه الظاهرة، هو كذلك خطأ لا شك فيه.
إذا، ما هو الحل..؟
البعض اقترح سحب الجنسية الكويتية مباشرة من كل هؤلاء! والبعض الآخر اقترح تحديد موعد للتنازل عن جنسية الدولة الاخرى قبل سحب «الكويتية». وهناك آراء اخرى بين هذا وذاك.
اما انا فأعتقد ان احصائية بسيطة عن حجم هذه الظاهرة تساعدنا على اعطاء تصور سليم للحل. فالمزدوج يحمل اما جنسية سعودية او جنسية ايرانية، او يحمل جواز سفر اميركيا، مع اهمالنا لجنسيات اخرى اعدادها قليلة جدا. وبما ان رؤيتنا المستقبلية واستراتيجيتنا الامنية معتمدتان على تصور واحد هو الوحدة الخليجية والتكامل بين دول الخليج في كل المجالات، وقد بدأنا فعلا المرور بالبطاقة والعملة النقدية الموحدة وتشكيل اتحاد مجلس التعاون والربط الكهربائي بين دول الخليج وغيرها من المشاريع المؤدية الى هذا التكامل والتي على رأسها بلا شك الجنسية الخليجية، وبما ان نشيدنا المشترك: خليجنا واحد وشعبنا واحد ومصيرنا واحد، فلكل ذلك ارى ان الحل الامثل لهذه الظاهرة هو: تعديل قوانين الجنسية بحيث يسمح لمواطني دول الخليج بالاحتفاظ بجنسية بلادهم الاصلية في حال حصولهم على جنسية دولة خليجية اخرى، تمهيدا للتكامل في توحيد الجنسية في المستقبل، اما بقية الدول غير الخليجية فيمنح اصحابها مهلة سنة لتسوية اوضاعهم. هذا الحل مشروط بما يلي: عدم حصول المزدوج على ازدواجية التمتع بالسكن الحكومي والراتب والوظيفة الحكومية من تلك الدولة.
«لفتة كريمة»: خلونا نعيش بواقعية.. بعيدا عن النرجسية.. فالعالم اليوم ما عاد يرحم.

مبارك فهد الدويلة