لبنان (أو على الأقل الحكومة اللبنانية)، أصبح مثل "بلّاع الموس" كما يُقال في الأمثال الشعبية، فلا هو قادر على قبول ما قد يسفر عنه قرار المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي تبدو فيه مؤشرات على إدانة لعناصر من حزب الله، ولا يستطيع في الوقت ذاته، نسيان أمر المحكمة، وكل ما بُني من تحقيقات وإجراءات خلال أكثر من خمس سنوات، تمّ تحت وصاية مجلس الأمن الذي خلق المحكمة بعد جريمة اغتيال الراحل.
كيف يمكن لعاقل أن يوفِّق بين عبارتين للرئيس سعد الحريري، حين أكد أن المحكمة ليست "أمراً طارئاً وليست بنت الساعة"، لكنه في الوقت ذاته -والكلام عائد إلى رئيس الوزراء- يرفض أن تكون قضية الاغتيال "سبباً في اندلاع فتنة مذهبية…"!
كم هو صعب موقف الرئيس سعد الحريري، يريد حكم القانون والعدالة حين ينتصفان لمقتل والده، لكنه يدرك أن حكم القانون سيعني فتح صندوق "بندورا" للشرور على لبنان من جديد، مع أن جرّة "بندورا" لم تُغلَق يوماً ما في لبنان منذ لحظة ميلاده واستقلاله حتى اليوم، فلبنان هو حالة قبائلية عربية متخلفة تحت مسمّى طائفي، وقد كتب الباحث بطرس لبكي في "النهار": "…كل اللبنانيين ينتمون إلى أسر، والأسر تنتمي إلى جب، والجب إلى عائلة، والعائلة إلى عشيرة، والعشيرة إلى قبيلة، وهذا صحيح، خاصة في المناطق الريفية من حيث يأتي 95 في المئة من اللبنانيين"!
هذه هي حالة لبنان القبلي الطائفي المُفتَّت إلى إقطاعيات مناطقية، يتزعم كل إقطاعية شيخ القبيلة أو "الرمز الطائفي".
لبنان ومعظم أقطار العالم العربي مع استثناء جلي في الحالة المصرية، مشاريع دول أوطان لم تكتمل، والانتماءات القبلية والمذهبية مقدمة دائماً على الولاء للدولة العاجزة عن توفير الحماية والعدالة الاجتماعية، ليس لبنان حالة مختلفة عن العراق أو اليمن في الفشل، ولا يبتعد كثيراً عن المشهد الصومالي، أو المشهد المحتمل لمعظم الأقطار العربية، والاختلاف هنا في دولنا ليس في النوع، بل في الدرجة، أي درجة التناقض والتنازع في الولاءات العشائرية والمذهبية، فكيف لنا أن نفكر بدولة القانون في لبنان وليس لدينا "دولة"؟ دولة بمعنى السلطة التي تحتكر سلطان العنف على إقليمها، وهناك سلطات أخرى أقوى من سلطة الدولة، مثل حزب الله الذي يرفض مع حلفائه من حركة 8 آذار القرار المحتمل للمحكمة، التي يصفها الجنرال عون بعدم النزاهة وغياب الشفافية، وبأن "أحكامها مسيَّسة"!
مصادرة قرار المحكمة "الظني" في النهاية، هي مصادرة لما تبقى من الدولة اللبنانية، ولن تجد الحكومة اللبنانية من حل سوى أن تطلب من مجلس الأمن نسيان المحكمة وما مضى، ولتُسجَّل قضية مقتل الحريري ضد مجهول كان اسمه "أبو عدس".