الوضع السياسي الآن تجاوز مرحلة كسر العظم، بعد أن تجاوز قبل ذلك مرحلة عض الأصابع، ووصل إلى المرحلة الأخطر، مرحلة حز الرقبة وتقطيع الأوصال… ونظرة واحدة على عدد القضايا المرفوعة وأسماء المتهمين تكفي وتفيض.
وتغضب "المندهشة" كما أسمت نفسها في تويتر، الزميلة عواطف العلوي في مقالة لها، وتغلف غضبها بالورود، وتضع إلى جانب الورود كرتاً وردياً تكتب عليه "عتاب محب" وترسل البوكيه بما فيه إلى المعارضة، وتحديداً إلى مسلم البراك وجمعان الحربش، على إثر تصريحاتهما بخصوص النقابات وجمعيات النفع العام، وإعلانهما الوقوف "مع" من يرفض هذا الوضع، و"ضد" من يسكت ويطنش ويردد "لابوهم لابو قطّاش" كما في أمثالنا، أو "خلّي هالزير بهالبير" كما في المثل اللبناني.
ويؤسفني أن أقول للزميلة المندهشة، التي بدت مكتئبة، إنني ومجموعة من الأصدقاء، وما أكثرهم، نستخدم هذه الطريقة في تعاملنا مع نواب مجلس الأمة: "إذا سكتّ يا فلان عن هذا الفساد فسنقف ضدك في الانتخابات المقبلة، وإن حاربت الفساد فسندعمك"، وكذلك يفعل الأميركان مع مرشحي الرئاسة والبرلمان وبقية قيادييهم، وكذا يفعل اليابانيون، والبريطانيون، والفرنسيون، والعجمان، والهنود الحمر، والأكراد، وآكلو الجبنة البيضاء، وأشقاؤهم آكلو الجبنة الصفراء، وغيرهم من سكان هذا الكوكب المعطاء… كل من على هذه الأرض يستخدم هذا الأسلوب "سندعمك إن فعلت كذا ونحاربك إن لم تفعل"، ولا أدري ما هو الغريب في الأمر، أو المدهش في الأمر أيتها المندهشة الرائعة… صدقيني لن نرحب بمن يسكت عن الفساد ونقدم له التمر والدلة الشاذلية، بل سنرجمه انتقاداً بسبع جمرات كبار.
وسأفتح كتب التاريخ على صفحات الفيلسوف الفرنسي العظيم "سارتر"، الذي قاد حملة المطالبة بمنح الجزائر استقلالها، ودفع ثمن ذلك، أو بالأحرى أثمان ذلك، وكان يهاجم الأدباء والفلاسفة الفرنسيين الذين لم يتخذوا موقفاً مماثلاً، ويتهمهم بأنهم أقرب إلى الشياطين منهم إلى البشر، وأنهم غير أسوياء، وإلا فكيف يسكتون عن استعباد الشعوب الضعيفة، ويرى بأن الفنان الذي لا يرفض احتلال فرنسا للجزائر أحقر من أن يكون إنساناً… وغير ذلك من مصطلحات أطلقها أثناء حملته تلك، مستنداً إلى شعبيته الجارفة في الانتصار للحق، ولن أغوص في تفاصيل حرق منزله ومكتبته فليست هذه قضيتنا.
والأمر لا يقتصر فقط على السياسيين، أقصد التهديد بالمحاسبة، بل ينسحب على الكثير غيرهم، ومنهم تهديد الناس بمقاطعة شركة فلان إن هو أفسد أو أساء، وتأييدهم ودعمهم لشركة فلان لنصرته في موضوع معين، وهكذا.
وتعلمين أيتها الزميلة يقيناً، وأقسم إنك تقسمين على أن البراك والحربش لا يملكان فصل موظف من عمله كما تملك الحكومة وتفعل، لكن يمكنهما إسقاط، أو السعي إلى إسقاط عضو هذه النقابة أو رئيس تلك الجمعية، عبر صناديق الانتخابات وجموع مؤيديهما، فأين الخلل؟
على أنني وغيري نحتمل كل كلمة انتقاد للحراك، بل وندعو إلى ذلك، وياه ياه ياه لو استمعتِ يا عواطف إلى نقاشاتنا و"خناقاتنا" واختلافاتنا مع بعضنا البعض، قبل أن نلتقط صورة جماعية باسمة تنشرها الصحافة والفضائيات، وهذا ما كنت أتمناه منكِ. أقصد "النقد داخل أسوار المنزل، بعيداً عن مرأى الجيران المتربصين ومسمعهم". أقول "أتمنى" ولم أقل "لا يحق لك".
والبراك والحربش يقدرهما الناس ويصدقونهما، ليس لعذوبة صوتيهما في الحفلات، ولا لملابسهما الفاخرة، ولا لجسديهما الرياضيين، ولا ولا ولا، بل جل التقدير كان لتكرار سقوط "غترتيهما" في الساحات والميادين، وتحملهما وغيرهما تعسف السلطة، وثباتهما أمام وحشيتها وبطشها. وأظن أنهما يدركان قبل خروجهما المتكرر للساحات والميادين أنهما ليسا في جولة في معارض العطورات بين جناحي "قرشي" و"سيد جنيد"، بل هما متيقنان بأن "العطورات المسيلة للدموع" والرصاص المطاطي في انتظارهما… لذا تحتاج المعارضة إلى "رماة نبل" لحماية ظهرها وتأمين الجبل، ورماة النبل هم أعضاء الجمعيات والنقابات.
وأجزم أن تكاتف الناس أزكى رائحة من العطورات الشرقية والغربية، ومن بوكيه الورود الذي غلّف عتابك المحب للمعارضة.