يبدو أن العسكري الذي يسكن في داخلي، رغم استقالتي من الجيش التي مضى عليها تسع سنوات، ما يزال حياً، بل وفي قمة لياقته البدنية، ويتمرن في نادٍ صحي، ويهرول كل صباح… بحسب تعليقات بعض المغردين في "تويتر" رداً على ما كتبته هناك عن أتاتورك.
وسقى الله تلك الليلة في مقهى بلبنان، عندما كنت ومسلم البراك نتعارك بالألسن على مرأى ومسمع من أصدقاء يؤمنون بعدم الانحياز، ولم يسعفنا الوقت لاستخدام الأيدي لارتباط مسلّم بدعوة على العشاء، وكان سبب المعركة نجاح انقلاب عساكر موريتانيا على معاوية ولد الطايع بعد الفساد الذي عمّ موريتانيا وكساها من الجلدة إلى الجلدة.
وكان مسلم يهاتف محمد الصقر (ناشر هذه الجريدة ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان آنذاك) ليحضه ويحثه على إصدار بيان يرفض الانقلاب، وكنت أنا أسعى إلى ثنيه عن ذلك، بحجة أن "عساكر موريتانيا قاموا بانقلابهم لا حباً في المناصب، بل لإيقاف الفساد والحفاظ على بقايا الدولة، والدليل أنهم حددوا فترة معينة لإجراء انتخابات جديدة قبل انسحابهم من السلطة". وأضفت: "يجب أن يكون بيان برلمان الكويت محايداً بحيث لا يؤيد الانقلاب ولا يرفضه ولا يتطرق إليه أصلاً، بل يدعو إلى سرعة إعادة الحياة الديمقراطية بطريقة أفضل مما كانت عليه، فقط"، وكان تعليق مسلم صارخاً: "سيموت محمد الوشيحي قبل أن يموت العسكري الذي في داخله"، وأضاف "عنصريتك العسكرية فاضحة وسافرة"، فانطلقت مني صرخة تجب صراخه كله: "من قال ذلك؟ وبعدين تعال… الرئيس الموريتاني المخلوع معاوية ولد الطايع هو الآخر رجل عسكري قاد انقلاباً ضد الرئيس الأسبق، وهو حارسه الشخصي، واليوم ينجح قائد الانقلاب العقيد علي ولد فال في الانقلاب على معاوية وهو حارسه الشخصي، إذاً القصة لا علاقة لها بالعسكرية ولا بالمدنية، بل بالفساد وحقوق البسطاء وهيكل الدولة ووو"، وكان رده: "مبدأ الانقلاب العسكري على الأنظمة الديمقراطية يجب أن ترفضه الشعوب وبرلماناتها، بعيداً عن التفاصيل يا أبا سلمان.
المبدأ ذاته مرفوض، والصناديق وحدها هي الطريق الوحيد المؤدي لنهضة الشعوب".
كان مسلم يتحدث بحماسة، وكانت عيني على رقبته، على تفاحة آدم تحديداً، وكنت قد قررت بيني وبين نفسي أن أنتزعها منه ليعيش بلا تفاحة طوال ما تبقى من حياته، لكن الله نجاه، على أنه لم يغادر مقهانا من دون خسائر، فقد كنت متحمساً في الحديث، وأردت أن أضع رجلاً على رجل، فضربت الطاولة، فسقطت أكواب الشاي والعصير في حضنه (وذلك من فضل ربي) فاتسخت ملابسه، واضطر إلى الذهاب إلى العشاء بملابس متسخة، وهذه هي عاقبة كل مَن يعادي العسكر.
ومسلم قبل غيره يعرف أن هذه التهمة (العنصرية العسكرية) يمكن إزالتها بطريقة أسهل من إزالة قشرة الموزة، والدليل كرهي لحافظ الأسد والنميري وعبدالناصر وعلي عبدالله صالح والقذافي وغيرهم من الحكام العساكر، رغم أنني تلقيت تعليمي العسكري في الكلية العسكرية التي تلقى فيها حافظ الأسد وعبدالناصر (والقذافي إن لم أكن مخطئاً) تعليمهم، ولم أكن أفاخر بذلك كما كان يفعل بعض الطلبة، بل كنت أراهم طغاةً دكتاتوريين يجلبون العار لا المفخرة.
أكتب هذا توطئة للحديث عن "العسكري" أتاتورك – الذي لا أنزهه عن الخطأ – في مقالات مقبلة، وهو "يهودي" زرعته بريطانيا ليحارب الإسلام ويعادي العرب، كما كانت تظن جدتي وضحة، رحمها الله، وكما يظن مثلها كثير من الشبان الذين تلقوا المعلومة وحفظوها واحتفظوا بها مغلفة دون أن يفتحوا غلافها.
نلتقي وقتذاك…