يُحكى أن رجلاً أبله عاش في زمنٍ يُقدم فيه العبيد ويُؤخر الأحرار، أراد أن يحرر العبيد مما هم فيه من خنوع وخضوع وسقوط وسوء حال، وأجمع أمره على أن يجعل من نفسه ومن أولئك البشر أناساً لهم كرامة وعزة، فيعلم السلطان ما يعلم مما آل إليه أمرهم، لكنه كان يخشى أمراً واحداً فقط وهو أنه – في قرارة نفسه – يُدرك أنه لا يمتلك القدرة على أن يُحرر نفسه من سطوة العبودية، وليس في مقدوره أصلاً أن يتكلم عن حقوق الناس وشئونهم وشجونهم، ومع ذلك، ارتاح لفكرةٍ لمعت في رأسه.
خاطب نفسه ذات ليلة قائلاً: «فليكن… إن لم يحالفني الحظ، فعلى الأقل، سأكون قد أدّيت ما عليّ من مسئولية، ونصحت لأولئك الناس، ومن بينهم الأحرار أيضاً، لكنني أعلم علم اليقين، لا أنا ولا من خضع للعبودية منذ ولادته، نحب الناصحين. بيد أنني سأطلق صرختي الأولى وسأدعو كل الناس إلى أن يقولوا: لا».
لم تمضِ سوى ساعات قليلة على فكرته تلك، إلا ورجال السلطان على باب داره.
كان حينها مستيقظاً رغم أن الليل قد انتصف. طرق رجال السلطان باب داره بقوة ففزّ هلعاً وهرع نحو الباب يفتحه فإذا بكبير العسس يخاطبه: «يا للغرابة… نحن في منتصف الليل وأنت مستيقظ؟ عهدناك مذ عرفناك أبلهاً معتوهاً نائماً في سباتٍ عميق! فما الأمر الذي جعلك مستيقظاً متنبهاً حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ عموماً، تعالَ معنا فالسلطان يريدك على الفور».
السلطان! هتف الرجل الأبله فاغراً فاه مبحلقاً في عين كبير العسس الذي قاطعه: «نعم السلطان. هيا هيا… لا وقت لدينا»، حاول أن يستفهم الأمر وأن يتبين سبب طلبه في تلك الليلة، لكن العسس جرّوه جرّاً.
كان طوال الطريق، من داره إلى قصر السلطان يضرب أخماساً بأسداس: «ترى، ما الأمر؟ وما الذي حدا بالسلطان لأن يستدعيني في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟»، وبلغ به القلق والخوف مبلغاً عظيماً حتى كاد يغمى عليه من شدة الهلع وهو يرافق العسس في الطريق فيرشّون وجهه بالماء ليفيق.
«سمعاً وطاعةً يا سيدي. هذا هو الأبله الذي أردته أن يمثل بين يديك. لم يكن نائماً كعادته، نعم كان مستيقظاً متنبهاً مسهداً يا مولاي… طلبت منا يا سيدي أن ننظر حاله إن كان نائماً أم مستيقظاً حال استدعائه فوجدناه نشيطاً لا أثر للنوم على وجهه». قال كبير العسس وحال الأبله لا يسر عدواً ولا صديقاً، يرتجف كسعفة في ليلة باردة الرياح. نظر إليه السلطان وابتسم: «هوّن عليك يا رجل. لِمَ أنت في هذه الحال من الخوف؟ هوّن عليك. يا غلام!
أحضر له شراباً ينعش قلبه. تفضل يا رجل. اقترب مني واجلس بجانبي مطمئناً مرتاحاً. هيّا تقدم».
شعر الأبله، بكل مشاعر الاطمئنان وهدأت نفسه. اقترب من السلطان فأجلسه على كرسي وثير بجانبه ثم بعد أن شرب شرابه سأله السلطان عن أحوال البلاد والعباد فقال: «مولاي. يسرك الحال… الرجال يمشون والدراهم تتراقص في جيوبهم، والنساء غاديات رائحات في الأسواق وهن يحملن العسل والفاكهة والسمن. والأطفال في السلطنة ينعمون بالصحة والعافية ويتعلمون ما ينفعهم. والتجار سعداء. الرعية في سعادة، بل حتى الحيوانات… حتى الحيوانات يا مولاي، سمينة مربربة من عظم ما تأكل من خيرات. الخير كثير يا مولاي. سلطنتكم تنعم بخير ما رأى الناس مثيلاً له أبداً».
ضحك السلطان ضحكة مجلجلة وقال: «جميل… رائع… يا لهذه الأنباء العظيمة»، ثم صمت برهة وصرخ بأعلى صوته: «وماذا عن العبيد أيها الأبله؟».
كانت صرخة السلطان، ومن شدتها، تكفي لأن ترديه قتيلاً لكنه تماسك عنوةً بعد أن سقط على الأرض يقبل أرجل السلطان: «أي عبيد يا مولاي أي عبيد. العبيد سيبقون عبيداً أبد الدهر. إن هم إلا كالأنعام… هم أرادوا ذلك… ثم يا مولاي لا عبيد في سلطنتك العامرة. هم ليسوا سوى سوقة… أو من ما ملكت أيماننا وأيمانكم يا سيدي».
رمقه السلطان بنظرة حادة وبعينين محمرتين: «هكذا إذاً… فلماذا أردت يا بُني أن تدعوهم لأن يقولوا (لا)؟ ولماذا؟ ولمن يقولونها؟».
ما أن أنهى السلطان كلامه حتى خرّ الأبله فاقد الوعي… حاول العسس أن يعيدوه إلى اليقظة فرشوا على وجهه الماء وخمشوا وجهه وسطروه و(فلصوه) فلم يستيقظ. هل مات الأبله؟ قال السلطان، فأجابه كبير العسس: «لايزال قلبه ينبض يا مولاي… فلم يمت». محاولة تلو الأخرى حتى استفاق الأبله مرتجفاً… في غفوته، كان هاتفاً يدور في رأسه متسائلاً: «كيف عرف السلطان بأمر (لا) وكل ما في الحكاية أنها فكرة دارت بين ثلاثة خلف جدران مغلقة: «عقله وقلبه وإبليس الرجيم»!
بعد استفاقته، أعاد كبير العسس عليه السؤال: «لقد سألك مولاي السلطان: من أولئك الذين ستدعوهم لأن يقولوا (لا)؟ هيّا أجب»، فما كان من الأبله إلا أن استحضر شيئاً من عبقريةٍ ما كان يملكها يوماً فقال: «سيدي السلطان…
أما والله إنني سأدعوهم لأن يقولوا (لا)… ولأنعمنك عيناً. أقسم عليك بما تحب، امنحني الفرصة لأن تسمع وترى بعينك يا مولاي ما سأفعله، ثم، لك رقبتي إن كان ما سأفعله لا يرضيك».
راقت الفكرة للسلطان رغم اعتراض كبير العسس فقال: «ستكون أنفاسك وخطواتك وخواطرك وأكلك وشربك ونومك وبلاهتك كلها تحت مرآي ومسمعي… وأيم الله، إن وجدتك في غير ما أريد… لآخذن الذي فيه عيناك».
خرج الأبله من قصر السلطان مع شروق الصباح متجهاً إلى داره عن طريق السوق. كان يعلم أن العسس في كل مكان، يحسبون أنفاسه قبل خطواته. وبينما هو كذلك، استعان به اثنان: «أيها الرجل… كن بيننا حكماً، لقد باعني هذا التاجر شوالاً من الشعير وقد وجدت نصفه فاسداً مغشوشاً، فهل من حقي أن أشكوه إلى قاضي القضاة أم لا؟»… فأجابه الأبله دون تردد: «بالتأكيد لا!». واصل طريقه فرآه قريباً له وتحدث معه قليلاً قائلاً: «لقد وعدتني يا نسيبي أن تصلح بيني وبين أهل زوجتي، وقد طال الوقت، هل ستعينني على الأمر أم… فقاطعه بسرعة قائلاً: «لا… طبعاً». شاهد في أحد الأزقة شاباً أرعن يتحرش بامرأة وهي تصرخ، جلس ينظر بعض الوقت وما أن أقبلت شرطة السوق حتى ولى ذلك الأرعن هارباً، فسأله أحد الشرطة: «تدّعي هذه المرأة أن غريباً اعتدى عليها… هل تشهد على ما رأيت؟»، فقال صارخاً مولياً: «لا … لا…
لا».
بُعيد أيام قليلة، جاءه كبير العسس مسروراً بالهدايا والأعطيات. جُن الرجل… ليس ذلك فحسب، بل دعاه كبير العسس بكل احترام وحنان ودلال ومياعة وجمبزة للقاء السلطان في التو واللحظة، وما أن رآه الأخير حتى هشّ في وجه وبشّ قائلاً: «أهلاً وسهلاً ومرحباً بالرجل الأبله الرشيد».