الحديث ما زال مستمراً عن أتاتورك والخلافة العثمانية، ومنه إلى مفهوم الدولة الإسلامية، وعن "القشورية" و"القشوريين"، وما أجمل كلمة "الخلافة الإسلامية" وما أحلى وقعها على الأذن، وما أسهل أن ينجر خلفها بسطاء الناس وحسنو النوايا. خذها مني وحاسبني، قل "الإسلام هو الحل" وستجد الآلاف يهتفون خلفك دون أن يتوقف كثيرهم أمام مبادئ "الدولة الإسلامية" أو حتى يقرأ عنها.
وأُصِبت بالحوَل والهزال عندما رأيت بعض شبان المعارضة هنا في الكويت، المطالبين بالحريات، يتباكون على الخلافة العثمانية ويلعنون آباء وأجداد أتاتورك الذي أسقطها وانسحب من أراضي الدول الأخرى ورفض احتلال شبر في بلدان الآخرين، ويتهمونه بالسبع الموبقات! وقبل أن أتحدث عن سهام اتهاماتهم الموجهة إلى سيرة أتاتورك، غير المنزه عن الخطأ، سأذكرهم بأن أتاتورك كان يرفع شعارات بعضها يشابه شعاراتهم، كـ"الحرية" و"لسنا عبيداً لبني عثمان" و"لماذا تبتلع الأسرة العثمانية خيرات البلد بلا حسيب ولا رقيب" و"يجب الحفاظ على أملاك الدولة من جشع أسرة بني عثمان وجلساء السلطان من التجار وزعماء الأسر الثرية الذين ابتلعوا كل شيء وتركوا الفقراء بلا أدنى متطلبات الحياة" وغير ذلك.
ويؤسفني أن أقول إن أصغر طفل من أسرة بني عثمان كان يرافقه موكب أكبر من مواكب حكام العرب في عصرنا الحالي كلهم، ويحزنني القول إن القرى التركية في العهد العثماني، حتى في أوج الخلافة، كانت أحقر من بيوت النمل وأكثر بؤساً من جحور الضبان، في حين يتمدد تنابلة السلطان والأسرة على الأرائك في القصور السلطانية، وكروشهم تتدلدل أمامهم، يتبادلون القهقهات ويتحدثون عن النساء، أيهن أجمل، العربية أم الفارسية أم التركية أم القوقازية أم الأوروبية أم أم أم، ويتباهون بأنواع الخيل، ويتبادلون أفخر أنواع العطورات… ومن يغضب فهو كاره للإسلام، يريد سقوط راية الإسلام، وهو بالتأكيد مندس من كفار أوروبا، وهو لا شك عميل أرسلته بريطانيا أو ألمانيا، أو كلتاهما معاً.
كانت الشعوب تحت راية الخلافة العثمانية عبارة عن عبيد بمستويات ومسميات مختلفة، وكان أحد لا يحلم مجرد حلم أن يتبوأ منصباً في الدولة ما لم يكن متذللاً لأحد من أبناء الأسرة العثمانية، وكانت الشعوب العربية تحت الخلافة العثمانية (أتحدث عن فترات أوجها ومجدها لا فترات وهنها وتفككها) تسبح في محيطات الجهل والفقر والجوع والفرقة والبؤس.
ويحكي لنا آباؤنا عن آبائهم بعض حكايات الجهل المضحك المبكي في أساسيات الإسلام، كـ"المحلل" في الزواج، إذ يطلّق الواحد منهم زوجته ثلاثاً فيمنعه الشرع عنها، فيلجأ إلى أحد رعاة الغنم أو الخدم، ويُدخله في الخيمة على طليقته، بعد أن يحذره من لمسها أو مجرد الاقتراب منها، إلى أن تشرق الشمس فيُخرجه من الخيمة، ويعود إليها، وأرجوك لا تسألني كي لا أسألك عن فترة العدة، فقد سقطت سهواً وجهلاً.
وبالتأكيد كل من يرفض تصرفات أفراد الأسرة العثمانية أو يحتج على فساد أصدقائهم وحاشيتهم فقد خرج من الإسلام وجزاؤه الخازوق المبين… ويأتي بعد ذلك القشوريون ليتباكوا على الدولة العثمانية الفاسدة لارتدائها قميص الإسلام.
وما زال الحديث مستمراً، وسأتحدث في المقبل من المقالات عن علمانية الدولة الأتاتوركية والفروقات بين الدولتين، العثمانية والأتاتوركية. مع التذكير بأن "العلمانية" تعني فصل الدين، أي دين، عن الدولة وليس فصل الإسلام عن الدولة، وأرجو أن يرحمنا من يدّعي أن العلمانية تم اختراعها لإسقاط الإسلام، فقد نشأت لمحاربة الكنيسة لا المسجد.