لا يمكن على الإطلاق إنكار وجود الممارسات الطائفية في كل المجتمعات الإسلامية بل وغير الإسلامية أيضاً، فتلك الممارسات تتخذ أشكالاً متعددة:
منها الطائفية الفردية، أي اعتناق فرد لثقافة الطائفية وفق تنشئته وتكوينه التربوي والثقافي والديني، ومنها طائفية الدول والحكومات التي تتبنى المنهج التمييزي بين مواطنيها، ثم هناك طائفية الكيانات والمؤسسات والتيارات، بيد أن أساس طائفية الحكومات والكيانات هو الفرد… أي أنها تتشكل من الأفراد الذين تشربوا – منذ صغرهم – كل الأفكار الطائفية البغيضة.
هناك حقيقة ترتبط بنشوء الطائفية وجذورها، ولاسيما في منطقة الخليج والعالم العربي والإسلامي، وهي أن الاستعمار زرع بذرة هذه الممارسة الدنيئة، ثم نشأت وتفرعت. وهي في حقيقتها قنبلة يزرعها المحتل قبل جلائه عن الدولة المستعمرة لتنفجر فيما بعد مسببة سلسلة من الانفجارات التي لا تتوقف! وفي هذا يقول الباحث سعيد الوجداني في دراسته «الطائفية الورم الخبيث في العالم العربي»، ان ظهور النظام الطائفي في البلاد العربية يكون دائماً مزاوجاً وملازماً لاحتلال الأجنبي لكل بلد عربي. لذا وللإحاطة أكثر بالموضوع، لا ينبغي حصر مناقشته في حدود الفترة الحاضرة المكشوفة عند الجميع وتجاهل خلفيته التاريخية، بل لابد من العودة إلى التاريخ والماضي البعيد لتلمس أصول المشكلة والتي لا تخص بلداً دون غيره، بل انها تعم كل البلاد العربية المهددة بهذا الطاعون الذي تجندت له الدوائر الامبريالية والصهيونية المتحرشة بالمنطقة العربية.
ويشدد الوجداني على أن النظام الطائفي، هو نظام سياسي من طبيعته انه يؤمّن للحاكمين والمحتلين وسيلة لتفريق المحكومين واستخدام أقلية مميّزة لقهر أكثرية مضطهدة. وقد اقترن ظهور هذا النظام بصورة خاصة بالمجتمعات الاقطاعية والاستبدادية التي تقوم على تجزئة السلطة السياسية، أكثر منها في المجتمعات الشديدة المركزية، وهذا لا يعني خلو المجتمعات الاسلامية من مقومات الاضطهاد الديني والتمييزي والطائفي. (انتهى الاقتباس).
وبالطبع، يبصم الجميع بالعشر على أن جذور الطائفية في بلداننا هي صنيعة الاستعمار! لا بأس، آمنا بالله… هي صنيعة الاستعمار، ولكن هل من المعقول أن تستمر الطائفية وتتعاظم إلى حد الاقتتال بين أبناء المجتمع فقط لأن الاستعمار وضع (تلك القنبلة) يوماً ما ومضى؟ أليس هناك من يتولى نزع فتيل تلك القنبلة؟ وكيف يمكن قبول تلك الحقيقة كما هي والواقع اليوم يكشف لنا أن دولاً وحكومات ومؤسسات ومحركات فتنة من مشايخ وكتاب ومنظرين ومؤيدين هم الذين أبقوا ذلك الفتيل بل ووفروا الدعم والرعاية والتشجيع لكل اتجاه طائفي مدمر للمجتمعات؟.
ان الطائفية بين مختلف المكونات الدينية إسلامية وغير اسلامية، بجذورها ومعطياتها ومدلولاتها قائمة ومسنودة وخطيرة ونتائجها المهولة ملموسة على أرض الواقع، إلا أن هناك ظاهرة أخطر بكثير من الفعل الطائفي بين المذاهب، وهي ظاهرة أرغب في تسميتها بـ «بكتيريا الطائفة»، تلك البكتيريا هي الطائفيون من الطائفة ذاتها، كيف؟ والجواب هو: من الطبيعي أن تجد طائفيين متشددين من السنة والشيعة يؤججون الفتنة، وتقف على ممارسات عنصرية لمسيحيين أو يهود أو حتى بوذيين يثيرون النعرات بين تلك الطوائف، لكن أن تجد طائفياً يؤجج ويؤلب ويفعل فعله الخسيس بين أبناء طائفته ذاتها، فهذا أمر أعلى وأخطر درجة من طائفيته ضد الطوائف الأخرى.
لقد ظهرت ملامح ظاهرة «بكتيريا الطائفي» مع ازدياد استخدام وسائل الاتصال التقنية والفضائيات والتواصل الاجتماعي إلى الدرجة التي أصبحنا فيها نتابع من يزعمون أنفسهم علماء دين من جهة، وسياسيين وإعلاميين وناشطين ومدونين ومثقفين وفئات مختلفة من جهة أخرى، سواء في الخليج أو في العالم العربي والإسلامي، يشنون حرباً ضروساً عبر تلك الوسائل مع من يختلفون معهم من طائفتهم. ولا تقتصر تلك الحرب على الخلاف في وجهات النظر أو الاتجاه الفكري أو ما شابه، بل تتعدى ذلك للتشهير وانتهاك الأعراض والشتائم وقائمة طويلة من الافتراءات والاحتراب والتهديد بالقتل. هذه الفئة من «بكتيريا الطائفي»، ليست من طبقة معينة أو مرحلة عمرية محددة، بل هي من مختلف الطبقات والأعمار، ويشمل ذلك التأجيج الخلاف الديني والسياسي والاجتماعي وليس محصوراً في الدائرة الدينية وحسب.
قد يسأل البعض عن الحل؟ وأقول جازماً، لا حل لمثل تلك الممارسات الخبيثة إلا بيد أصحابها من ناحية، وتطبيق القانون على من يمارس ذلك العمل الدنيء كونه يدخل تحت إطار «تهديد السلم الاجتماعي» من ناحية أخرى، لكن باختصار، ولطالما نحن نعيش في مجتمعات تشجع الطائفية والتمييز والعنصرية والتصادم بين الطوائف، فمن الطبيعي أن ترحب وتستمتع بما تفعله بكتيريا الطائفية في عقر دارها. أما كيفية التعاطي مع اولئك، فقرارك ومسئوليتك الشرعية والدينية والأخلاقية بيدك! فإما أن ترفضهم وتحتقرهم، وإما أن تصفق لهم وتشجعهم فتصبح منهم.