ربما شاهدنا العديد من المقاطع في المسرحيات والمسلسلات والدراما العربية والخليجية وربما في بعض الأفلام السينمائية، حينما يأتي أحد المسئولين الكبار مطمئناً على أوضاع الناس فتنبري له جوقة النفاق من المسئولين الأصغر فالأصغر، وتحف بهم في بعض الزيارات كروش وبشوت نسخة الرياء من المشايخ الذين يتحفونه بالكثير من الكلام الجميل عن حالة السعادة والرخاء التي يعيشها الناس، فتتلاقى مشاهد فيلم «الواد محروس بتاع الوزير» للفنان عادل امام مع مقاطع مسرحية «تخاريف» للفنان محمد صبحي مع الكثير الكثير من (التشليخ) الذي تختفي وراءه آلام ومعاناة وأوضاع الناس البشعة في مجتمعاتنا العربية.
تلك الممارسة الدنيئة، ومع شديد الأسف، أصبحت من المسلمات البديهية في كل المجتمعات العربية، فما يهم جوقة النفاق وكروش الرياء هو رضا الهوامير عنها، أما مسئوليتهم تجاه المواطنين الذين يعيشون في وضع شديد البؤس والشقاء فذلك لا يهمهم إطلاقاً. ما يهمهم هو ألا يغضب ولي الأمر أو يتكدر مزاجه فيذهبون في ستين داهية! والحال أن أي مسئول عربي يدعي أنه لا يعلم بأحوال مواطنيه فهو كاذب! بل يعلم بكل شيء، حتى وإن استساغ من (طبول الزفة) ما تملأ به أذناه من أكاذيب.
كل شي تمام يا فندم.
***
من كتاب «روائع التاريخ العثماني»، أمر السلطان محمد ببناء أحد الجوامع في مدينة اسطنبول، وكلف أحد المعماريين الروم واسمه ابسلانتي، بالإشراف على بناء هذا الجامع، إذ كان هذا الرومي معمارياً بارعاً، وكان من بين أوامر السلطان أن تكون أعمدة هذا الجامع من المرمر، وأن تكون هذه الأعمدة مرتفعة ليبدو الجامع فخماً، وحدد الارتفاع للمعماري.
المعماري الرومي أمر بقص هذه الأعمدة، وتقصير طولها دون أن يخبر السلطان، أو يستشيره في ذلك، وعندما سمع السلطان بذلك، استشاط غضباً، إذ ان هذه الأعمدة التي جلبت من مكان بعيد، لم تعد ذات فائدة في نظره، وفي ثورة غضبه هذا، أمر بقطع يد هذا المعماري، ومع أنه ندم على ذلك، إلا أنه كان ندماًً بعد فوات الأوان.
لم يسكت المعماري عن الظلم الذي لحقه، بل راجع قاضي اسطنبول الشيخ صاري خضر جلبي، الذي كان صيت عدالته قد ذاع وانتشر في جميع أنحاء الإمبراطورية، واشتكى إليه ما لحقه من ظلم من قبل السلطان. ولم يتردد القاضي في قبول هذه الشكوى، بل أرسل من فوره رسولاً إلى السلطان يستدعيه للمثول أمامه في المحكمة لوجود شكوى ضده من أحد الرعايا، ولم يتردد السلطان كذلك في قبول دعوة القاضي، فالحق والعدل يجب أن يكون فوق كل سلطان. وفي اليوم المحدد حضر السلطان إلى المحكمة، وتوجه للجلوس على المقعد فقال له القاضي: «لا يجوز لك الجلوس يا سيدي بل عليك الوقوف بجانب خصمك»! وقف السلطان بجانب خصمه الرومي الذي شرح مظلمته للقاضي، وعندما جاء دور السلطان في الكلام، أيد ما قاله الرومي.
وبعد انتهاء كلامه وقف ينتظر حكم القاضي، الذي فكر برهة ثم توجه إليه قائلاًَ: «شرعاً، يجب قطع يدك أيها السلطان قصاصاً»! ذهل المعماري الرومي، وارتجف دهشة من هذا الحكم الذي نطق به القاضي، والذي ما كان يدور بخلده أو بخياله لا من قريب ولا من بعيد، فقد كان أقصى ما يتوقعه أن يحكم له القاضي بتعويض مالي. أما أن يحكم له القاضي بقطع يد السلطان فاتح القسطنطينية الذي كانت دول أوروبا كلها ترتجف منه رعباً، فكان أمراً وراء الخيال! وبصوت ذاهل، وبعبارات متعثرة قال الرومي للقاضي انه يتنازل عن دعواه، وأن ما يرجوه منه هو الحكم له بتعويض مالي فقط، لأن قطع يد السلطان لن يفيده شيئاً! فحكم له القاضي بعشر قطع نقدية لكل يوم طوال حياته تعويضاً له عن الضرر البالغ الذي لحق به، لكن السلطان قرر أن يعطيه عشرين قطعة نقدية كل يوم تعبيراً عن فرحه لخلاصه من حكم القصاص، وتعبيراً عن ندمه كذلك.
***
يقال ان أحد السلاطين، جال في بعض أرجاء سلطنته بمعية عسسه ووزرائه وخدمه وحشمه وجوقة المنافقين إياها الذين اعتادوا على أن يحجبوا عن عينه الأحياء الفقيرة وقرى الفلاحين. سأل وزيره: كيف هي أوضاع الناس وما هي أحوالهم المعيشية؟ – كل شيء على ما يرام. الناس في خير حال ويدعون لكم بطول العمر والسعادة والخير والبقاء المديد يا فندم. يرفلون في بحبوحة من العيش الكريم. ينامون وعيونهم قريرة آمنين مطمئنين على معاشهم ومستقبل عيالهم. يعيشون في منازل جميلة ويركبون أحدث السيارات ويرتدون أفخر الملابس وأفخمها، ويقضون أمسياتهم في أروع الحدائق وأكبر المطاعم. كل شيء تمام يا فندم.
* هل أنت متأكد من ذلك؟ ولاسيما أن هناك من يشكو من افتقاره للمأوى والمأكل والمشرب؟ – هذا يا فندم في الأساطير القديمة. هذا ما نقرأه لأطفالنا عن كان يا ما كان. أما اليوم، فأقل إنسان، أبسط عامل، أفقر فلاح… يعيش في بيت رائع بحديقة تفتح النفس، وأنك لتجد في منزله خط انترنت وأطباقا لاقطة ولدى كل أفراد عائلته أحدث هواتف الآي فون والسامسونج.
* عجباً… وهل هناك أقل إنسان وأبسط عامل وأفقر فلاح يعيش بيننا؟ ظننت أن الجميع في بحبوبة من العيش كما تقول؟ – عفوك يا مولاي عفوك. خانني التعبير. خلاص ماعودها. زلة لسان يا فندم. فمن أين لنا الفقراء والبسطاء وخيرك يغمر الجميع.
* عال عال. وماذا عن الكلام الذي يتناقله الناس هنا وهناك عن الظلم والفساد وانتهاك الحقوق والذي منه؟ – أبداًً… أبداً. كل ذلك هراء. كلها أكاذيب وافتراءات وأفكار دخيلة مدسوسة. يا فندم كل شيء على ما يرام، وكل ما في الأمر، أن بعض ناكري النعمة، ممن لا يملأ عيونهم إلا التراب، أخذتهم مساوئ الحقد والطمع والغل والضغينة. نعم، قلوبهم سوداء فيسعون لتشويه كل هذه النعم يا مولاي يا فندم.
* أها… سمعت شيئاًً من هذا القبيل على أحد المواقع الإلكترونية. كتبوا عنك وعن غيرك من المسئولين أنكم لصوص وتتكسبون من مناصبكم وتلهفون ما تصل إليه أيديكم من أموال… وما إلى ذلك؟ – أرأيت يا مولاي أرأيت؟ وهل يعقل هذا؟ ومن أين لنا كل هذا الفراغ من الوقت ونحن نطوي الليل بالنهار في السهر لخدمة المواطن. من أين لنا الوقت لنفعل كل ذلك. وقتنا كله مخصص لراحة أصغر مواطن. صدقني يا فندم، كل شي تمام التمام. اطمئن… فنحن نخاف الله ولا نفعل إلا ما يرضيه. إي والله…
في صلاة أمي وأبوي.
* أتعلم أنك أكبر منافق وكذاب ومدلس و «جليل حيا»؟ – بالتأكيد أعلم يا مولاي. كل ما تقوله تمام يا فندم. وهل أنا وأمثالي إلا الطامة الكبرى يا فندم.