كم أعشق السنوات الفارهات، كسنة ١٩٦٢ التي ولد فيها الدستور، وسنة ١٩٩١ التي عادت فيها الكويت إلى الحياة، بعد محاولة اغتيال فاشلة قام بها صدام وجيشه، وسنة ٢٠١٢ التي تميزت بابتسامتها الساخرة من السلطة.
كانت سنة، تسابق فيها الشبان الأحرار على الزنازين، وتزاحموا أمام نيابة أمن الدولة، فتداعى الشعب لدفع كفالاتهم.
كانت سنة، مسحت فيها المادة السادسة من الدستور دموعها عن عينيها، ونهضت، وهرولت تغسل وجهها، وتعيد تسريح شعرها، وتطل من نافذة سجنها، بمشاعر اختلطت فيها الرهبة بالفرح، على وقع صيحات الشبان وأهازيجهم… صحيح أن الشبان لم يطلقوا سراحها بعد، لكنهم عرفوا مخبأها، ومازالوا يتصارعون مع السلطة لتحرير الأسيرة وإعادتها إلى حضن الشعب.
كانت سنة، لفرط اختلافها، تعاقبَ عليها مجالس ثلاثة، أقصد مجالس أمة، مجلسان للسلطة والثالث للشعب، بعد سنوات عجاف كانت السلطة فيها تبني مجلسها من التمر فإذا جاعت أكلته.
كانت سنة، حكّت معادن الناس، فظهرت ألوان المعادن الحقيقية، واختلط فيها الشامي بالمغربي، والليبرالي بالإسلامي، والقبَلي بالحضري، والفقير بالغني، ووو…
كانت سنة، تكلم فيها ليبراليو السلطة بلسان يخجل غلاة المتدينين، عندما رفعوا شعار "طاعة ولي الأمر من طاعة الله"، ورفع فيها متدينو السلطة شعار "لن تخطئ السلطة ولن يصيب الشعب"، على عكس شعار الفاروق عمر رضي الله عنه.
كانت سنة، فارهة فارقة، بفستانها الفخيم، وابتسامتها الشامخة الهازئة بقنابل الغاز والمطاعات والرصاص المطاطي واتهامات أمن الدولة والكفالات ومنع السفر ووو…
كانت سنة، لم تغادر إلا بعد أن أوصت شقيقتها الصغرى ٢٠١٣ بحسم الأمر، وبعد أن أعطتها "نقطة" لتضعها في آخر السطر، فتعهدت الأخيرة "بشرفها" بأن تفعل، وستفعل.
كانت سنة، سحرت قلوب الشبان، وخطفت ألبابهم، فتقدم إليها الفرسان منهم، ممن اعتادت جلودهم السموم والرمضاء والزمهرير، وتخاذل "عيال الفيّ" و"عشاق الدفء والظل".
كانت سنة، غادرت وبقايا عطرها مازالت تُسكر، وطريقة خطوِها تفتن، وجمالها يقتل… كانت سنة… وكل عام وأنتم بشموخ.
اليوم: 3 يناير، 2013
رسالة الشباب كما أفهمها
الرسالة القوية التي أفهمها من رفض الشباب خالد وراشد الفضالة وعبدالله الرسام وفهد القبندي، أنهم لا يتحدون قرار النيابة فقط بالإفراج عنهم بكفالة مالية قدرها ألف دينار لكل منهم، والتي يرون أنها عقوبة من غير حكم نهائي، وليست إجراء احترازياً كما يفترض أن تكون، بل يتحدون أيضاً التشريعات الجزائية التي يتهمون بخرقها، كالإساءة للذات الأميرية والعيب في صلاحيات الأمير والاشتراك في مظاهرة غير مرخصة.
طبيعي أن تلك التشريعات قد صيغت بشكل نصوص عامة غير محددة، والنصوص، هي كلمات واسعة وفضفاضة، ويمكن أن يختلف على فهمها الناس حسب ثقافتهم وميولهم السياسية وتبعيتهم لممارسات السلطة أو رفضهم لتلك الممارسات، فتلك النصوص يمكن أن تصبح سيفاً مصلتاً على رؤوس الأفراد تحركها وتهزها سلطة الحكم كيفما تشاء لترويع "كل من تسول له نفسه"، (وتلك عبارة ملهمة في خطاب السلطة عادة) أن يشق عصا الطاعة، أو يمكن أن نعقِّل من فهم تلك النصوص، حين يكون صدر السلطة متسامحاً رحباً يثق بنفسه وبمصيره المرتبط بقناعة الناس وقبولهم به.
المجاميع الشبابية التي تساق كل يوم وآخر إلى النيابة والمحاكمات، لا يتصور أنها تقصد خرق تلك التشريعات لأي سبب، وبالتأكيد لا يقصد أي من هؤلاء الشباب المساس بسمو الأمير أو سلطاته، ولا يهدفون بأي حال إلى هز نظام الحكم، فهم لا يريدون غير أن يتنفسوا بحرية. أرادوا أن يقولوا رأيهم بصوت عالٍ (ربما) ضد مرسوم الصوت الواحد أو (ربما) بكلمات أدق ضد استفراد السلطة بالحكم وعزلها تماماً للصوت المعارض.
أعتقد أن الشباب يعون أننا في بلد غير ديمقراطي، ولم تكن لدينا يوماً ديمقراطية حقيقية يتنطع بها الحزب الحاكم ومريدوه، وأننا كنا، ومازلنا، نحيا بوهم كبير اسمه الديمقراطية والدستور، ويعي هؤلاء الشباب أن الفسحة الضيقة واسمها "حرية التعبير النسبية" التي تنفس منها الناس في لحظات عابرة؛ يوم ولادة الدستور عام ٦٢ وخنق بعدها بسنوات قليلة، وبعد وفاة عبدالله السالم قد قلصت إلى حد كبير، وأن السلطة "وهي الأسرة الحاكمة" بممارساتها المستمرة لقمع أي محاولات جدية للإصلاح لا تقبل الرأى الآخر، ولا تريد أن تضع حداً للنهب المبرمج لمقدرات الدولة من بعض أفراد الأسرة أنفسهم، أو من الجماعات المتحلقة حولها، وفي الوقت ذاته، ليس لهذه السلطة أي مشروع تنموي ورؤية لمستقبل البلد كخيار ثانٍ يعوض قليلاً عن الغياب الديمقراطي.
فالدولة هنا أفلست من الاثنين، فهي لا تملك الديمقراطية بالأساس، ولا تحوز مشروعاً مستقبلياً يؤمن الغد المجهول، فأضحى الشباب الواعون رهينة القلق من القادم، وهم في الحاضر محرومون من حق التعبير عن هذا القلق المشروع، فمتى تتخلى السلطة عن دور الأخ الأكبر والوالد المسيطر، وتعلم أن التاريخ يسير دائماً إلى الأمام، ولا يقف عند تخومها كما تتوهم…
حسن الصباح
من قرأ رواية سمرقند الرائعة لأمين معلوف، لربما سحره الجزء الذي تطرق فيه لدولة حسن الصباح أو الحشاشين! والحشاشون هم جماعة إسماعيلية نزارية، انشقوا عن الدولة الفاطمية. وقد أنشأ الصباح دولته في قلعة آلموت الحصينة في إقليم ديلم بفارس، والذي ربما رحل منه الشاعر مهيار الديلمي في القرن الخامس إلى بغداد، وهو صاحب القصيدة التي كانت تدرّس لنا في المتوسطة، ولا أستغرب إن توقفوا عن تدريسها الآن، والتي يقول فيها:
«لا تخَال.ي نَسَباً يَخف.ضن.ي ** أَنَا مَن يُرض.يكَ ع.ندَ النَّسَب.
قَومي استَوَلوا عَلى الدهر فتىً ** وَمَشُوا فَوق رؤوس. الحُقَب.
عَمَّمُوا بالشَّمس. هَامَاتَهُمُ ** وَبَنَوا أبياتَهُم بالشَّهَب.
وَأب.ي كسرَى عَلَى إ.يوَان.ه. ** أَينَ ف.ي النَّاس. أَبٌ مثلَ أب.ي
سُورةُ المُلك القُدَامَى وَعَلى ** شَرَف. الإ.سلام. ل.ي وَالأدَب.
قَد قبستُ المَجدَ م.ن خَير. أبٍ ** وقبستُ الدّ.ين م.ن خَير. نَب.ي
وَضَمَمْتُ الفخرَ م.ن أطراف.ه. ** سُؤدَد الفُرس وَد.ين العَرَب.».
استمر حكم حسن الصباح 35 عاما، لم يغادر فيها القلعة ابدا، واستمرت دولته في ذريته سنوات طويلة بعدها، قبل ان يقضي عليها المغول. وقد اشتهر مساعدوه بالحشاشين، لأن زعيمهم كان يوفر لهم معيشة خيالية في القلعة، ومن ثم يطلقهم للقيام بعمليات الاغتيال لأعداء الطائفة والدين! ولكن كلمة «حشاشين» دخلت القاموس الإنكليزي، وقواميس أوروبية أخرى على أساس (assassin) أي الذين يقومون بعمليات الاغتيال لأهداف سياسية، وليس لأنهم حشاشون! ويتهم الإسماعيليون خصومهم بتلفيق تهمة التحشيش عليهم!
ولو تركنا الحشاشين، ونظرنا إلى واقع الجماعات الدينية عندنا اليوم، لوجدنا غالبيتها تأتمر بأمر شخص محدد، يكون عادة مرشدا أعلى، أو مفتيا كبيرا، كما هي الحال في إيرانـ ولدى الإخوان المسلمين، وأتباع شيوخ السلف. وبعكس ما كان يحدث مع حشاشي حسن الصباح، وفي الجيوش، فإن ما يصدر اليوم عن المرشد الأعلى، أو العام، ينفذ باقتناع من قبل الاتباع الذين سلموا عقولهم للمرشد برضا تام، وآمنوا بأن ما يقوله هو الصواب، وهذا يعني إلغاء العقل والمنطق والتفكير، وبالتالي فإن دولة الإخوان لا تختلف عن دولة حسن الصباح، مع الفارق أن أتباع الإخوان، والمؤمنين بصحة كلام المرشد، بينهم متعلمون، فكيف فقد هؤلاء كل قدرة على التمييز والتفكير السليم؟ وكيف يمكن أن يعطي الملايين أصواتهم، في انتخابات «سابقة» لشخص مثل حازم ابو اسماعيل؟ وهو الذي وقع في أخطاء مهلكة ومضحكة، عندما كان شيخ دين يفتي في القنوات، ويرتدي المضحك من الملابس، وينتقل من الجبة واللباس الأزهري إلى البدلة وربطة العنق؟ وكيف قبل هؤلاء بإمكانية تسليم مصير دولة، وهو الذي لم يكن صادقا في تصريحاته ولا بيانات ترشيحه؟ هل اصاب الخدر العقل العربي المسلم، بحيث اصبح غير قادر على التفكير والتدبير؟ ولماذا اصر الناخب الكويتي على اختيار كل هذه النوعية السيئة من النواب المرة تلو الأخرى، على مدى نصف قرن من دون أن يشعر يوما بأن في الأمر خطأ ما؟
أين أنت يا حسن الصباح، لتفسر لنا ما يجري؟
* * *
• ملاحظة: سبق أن ذكرنا أن كريسماس Xmas تتكون في الإنكليزية من كلمتين X وهي اختصار قديم لاسم المسيح Christ وmas وتعني ميلاد، وانها كلمة هيروغلوفيه! وقد نبهنا الصديق فيصل الغيص، السفير السابق، إلى أن Xmas كانت في الأصل Xmass واختصرت إلى mas وأصلها يعني قداس، وتفهم الكلمتان مجازا على أنهما تعنيان «ميلاد المسيح».
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com