من مقال "الانتفاضة العربية وأوهام الدولة الدينية" للأستاذ مسعود الظاهر في جريدة النهار اللبنانية قبل أكثر من عام، ختم الكاتب مقالته بهذه الفقرة: "لاتزال العصبيات الدينية والقبلية حاضرة بقوة في المجتمعات العربية، ولاتزال الدولة الديمقراطية مفهوماً ضبابياً في عالم عربي محكوم بالذهنية الدينية والقبلية، ومع إصرار القوى السياسية الحاكمة في دول عربية منتفضة على تطبيق الشريعة الإسلامية تراجعت مفاهيم الحرية، والوطن والمواطنة، والسيادة، وحقوق الإنسان العربي الفرد، وباتت مؤسسات الدولة العصرية مهددة بالزوال، وعاجزة عن ممارسة الديمقراطية دون مشاركة الديمقراطيين في معركة شرسة لحماية أنفسهم ووطنهم، فانتشار الوعي الديمقراطي لم يخفف من الوعي الديني بل زاده صلابة في الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها الدول العربية المنتفضة، وهي قوى إسلاموية سلطوية لا تستطيع إقامة التعارض مع السلطة الدينية، وتحديداً مع سلطة المرشد الديني أو سلطة ولاية الفقيه، فالمؤسسة السياسية في الدول العربية المنتفضة اليوم هي امتداد للسلطة الدينية التي تتمتع بصلاحيات واسعة للرقابة على الناس والكتب والفنون والمطبوعات والمسرح والأغاني والنوادي الفكرية، فهناك اليوم تصادم حاد وجذري بين قوى إسلاموية استغلت الانتفاضات الشبابية لتحاول بناء دولة إسلامية تتعارض جذرياً مع أهداف تلك الانتفاضات، وبين قوى ديمقراطية عريضة تواجه بصلابة المد الإسلاموي الذي يستخدم العنف السلطوي باسم الإسلام السياسي، وهي معركة مصيرية تطال حاضر العرب ومستقبلهم".
يشترك الكثير من المثقفين العرب مع الأستاذ مسعود الظاهر في قلقهم المشروع من المستقبل القادم للدول العربية، وكأن لسان حالهم يقول "كالمستجير من الرمضاء بالنار"، الرمضاء هي صحارى النظم العربية الحاكمة (أو التي كانت حاكمة) والنار التي قد يستجيرون (أو استجاروا فعلاً) بها هي الأنظمة الثورية التي تلبس العباءة الدينية، إذن حسب هذا الرأي، تصبح قضية الحريات والديمقراطية ليست هي أزمات "أنظمة حكم" فقط، بل هي أزمة مجتمعات عربية يهيمن عليها بالأساس الهوية القبلية والنزعات الدينية الطائفية.
فحين يزول النظام السوري فرضاً، فالبديل هو جبهة النصرة وجند الشام، وهما صور متجددة للعرب الأفغان، فأين الحل بفرض عدم تفكك الدولة السورية إلى دويلات طائفية وعرقية؟! هل يتعين على الحالمين بالحريات والكرامة أن ينتظروا عشرات وربما "مئات" السنين حتى يتبلور الوعي بالانتماء للدولة وبهويتها الوطنية، أم عليهم أن يتجرعوا مرارة أنظمتهم الحاكمة لأن البديل أسوأ؟!
خطورة مثل هذا الرأي أنه يبرر ضمناً "شرعية" بقاء واستمرار الأنظمة العربية السائدة، ويبرر من جهة أخرى كل الإجراءات القمعية التي تتخذها هذه الأنظمة ضد المخالفين، هذا القمع لا يفرق بين صاحب لحية وحليق، وبين ليبرالي ويساري، وبين إسلامي معتدل وآخر متطرف، فهم على مسطرة واحدة عند الحاكم، عندها تصبح كل محاولة لنصح النظام الحاكم والدعوة إلى إصلاحه جريمة كبرى ضد أمن الدولة وهيبة الحكم.
لنقر بأن الحالة العربية ستمر بمخاض طويل، يختلط فيه الداخل بالخارج، مصالح الدول الكبرى وتفكك الداخل الذي لم يقم أساساً على مفهوم الدولة الأمة، وإنما كان مجرد ترتيبات حدودية رسمها المستعمر الإنكليزي– الفرنسي على رمال الصحراء سابقاً، وتصونها اليوم "الولايات المتحدة"، وأن الطريق أمام شعوب المنطقة بقبائلهم وطوائفهم للوصول إلى عالم متطور وحر مازال طويلاً وشاقاً، لكن لابد من بداية ما للتغيير، فهذه الأنظمة ترفض كل محاولات الإصلاح، وتصر على تقنين الجمود السياسي والفساد المالي، وما الذي يخشاه المثقفون الليبراليون في النهاية، فليس هناك أسوأ من جمود الانتظار.