محمد الوشيحي

زيارة واحدة… سألتكم بالله!

عيناه معلقتان على الباب. كلما فُتح أو طُرق انتفض، علّه أحد من أبنائه… تتعب عيناه، وتغمضان جفنيهما على اليأس والخيبة والدموع، فينام! يستيقظ على أمل جديد، وكلما فُتح الباب فجأة التفتَ بسرعة لعله أحد أبنائه جاء لزيارته ومسامرته بعد كل هذا الجفاء… كل يوم، كل ساعة، كل لحظة، يمنّي نفسه برؤيتهم، أو أحدهم على الأقل، قادماً لزيارته وهو ممدد على سرير المرض في المستشفى. كانت هذه هي آخر أمنياته وأحلامه. زيارة واحدة قبل أن يموت. زيارة واحدة تقوم مقام المنديل بمسح دموعه. زيارة واحدة يفاخر بها أمام ممرضيه وممرضاته وبقية المرضى في الجناح.
هناك، في زاوية الغرفة، يرتفع شخير مرافقه الآسيوي الذي يجد صعوبة بالغة في التفاهم معه. من يلومه؟ هي وظيفة على أية حال، يتقاضى منها هذا الآسيوي راتباً.
وحيداً تمضي به الأيام، ممدداً بلا حول ولا حيلة، ينتظر ساعة الرحيل، ومعه ينتظرها بشغف أكبر بعض الممرضين والممرضات الأجانب الملولين. أبناؤه كذلك ينتظرونها بشغف يفوق شغف الممرضين والممرضات… الوحيد الذي لا يتمناها هو الآسيوي، المرتاح في هذه الوظيفة السهلة.
يُجلسه مرافقه الآسيوي على كرسيه المتحرك… يصطحبه في جولته اليومية الترويحية في الجناح، كما أمر الأطباء. تقع عيناه على غرفة جاره؛ الباب مفتوح، رجال ونساء وأطفال يتضاحكون، كعادتهم أثناء زيارتهم والدهم. يفرح هو لرؤية هذا المنظر، ويخفي غصة تكاد تقتله كلما تذكر جحود أبنائه… ويكتم شهقة كلما تذكر تدليله إياهم.
يخيم الظلام على المستشفى. يُعيده مرافقه الآسيوي إلى غرفته. ترتفع جلبة الزائرين أثناء مغادرتهم غرف مرضاهم، وحدهم المرافقون يبقون، غالبيتهم شبان يرافقون آباءهم… يُطرق بابه، يلتفت كمن لسعته الكهرباء، فإذا هو، كالعادة، أحد الشبان مرافقي المرضى المجاورين، يناوله طبقاً من الطعام المنزلي، ويقبل رأسه ويمضي… يا الله.
يا الله… يا الله… دارت بي الدنيا حتى أضحيت محل شفقة وصدقة؟ يا الله… لا أريد من أبنائي طعاماً ولا كلاماً… لا أريد إلا رؤيتهم، وسأقبل اعتذارهم، أقسم أنني سأقبله… يا الله، زيارة واحدة قبل أن أفارق الدنيا…
كفكف دموعك أيها المسن… كفكفها واطرد هذا الأمل الصعب من خيالك، وارقد… ارقد.
حسن العيسى

استجواب رياض تشخيص لأمراض الدولة

لماذا هذه الحساسية الزائدة وما رافقها من كلمات استهزاء ووعظ متعالية ضد النائب رياض العدساني حين قدم استجوابه لرئيس الحكومة من جماعات ملوك أكثر من الملك، كأن الاستجواب يصادر منابع أرزاقهم، أو يتهمهم بالخيانة والعمالة! شلل التابعين و"المتمصلحين" من بقاء الأوضاع السيئة على حالها ينطبق عليها المثل الشعبي "اللي على راسه بطحة يحسس عليها"، وبالتأكيد فإن على رؤوسهم بطحات عظيمة، وإلا فما معني ذلك الانتقاد المر والتوبيخ السخيف ضد رياض لمجرد تقديمه الاستجواب حتى قبل أن ينطق رئيس الوزراء أو مكتبه بكلمة واحدة عن نقاط الاستجواب. 
 رياض في استجوابه لا يتهم رئيس الوزراء بقضايا محددة، بقدر ما يعرض استجوابه أمراض الدولة التي يتجرعها المواطنون عبر عقود ممتدة منذ ما قبل تكليف الشيخ جابر المبارك بمنصبه، وحتى قبل الذين سبقوه، فمن منا لا يشكو الإسكان وقضاياه المتشعبة من ارتفاع جنوني في أسعار الأراضي حتى أضحى أصحاب الملايين هم القادرين وحدهم دون غيرهم على شراء قطعة أرض بسيطة لسكن أبنائهم، ومن منا لا يتألم من فترات انتظار مأساوية تمتد عقوداً حتى يحصل على بيت العمر أو يُقدَّم له القرض مع شروط مجحفة لا تتماشى مع الواقع. سبعون ألف دينار تقدم لمن يريد شراء شقة العمر بشرط ألا تقل مساحتها عن 280 متراً مربعاً (على حد علمي) فهل توجد شقة بهذا الحجم وبذلك السعر في الإقطاعيات الكويتية في دولة مخصصة للأثرياء؟ أما القائمون على شؤون الإسكان فيبدو أنهم في عالم آخر، فهم لا يرحمون ولا يتركون رحمة الله تنزل، ونبقى على هذا الحال إلى ما شاء الله. 
 من نقاط الاستجواب الرئيسية الصحة والتعليم والإسكان، فهل هناك من يجادل في أن "ثالوث" الأمراض المزمنة تتمثل فيها، وهل قدمت هذه الحكومة خطة لحلها، وهل سنصدق وعودها، كما كانت وعود سابقاتها، بأن لها القدرة على حلها، فهذا حلم لا نملكه يطفو في غيوم الأوهام، لكننا نتمنى بتواضع اليائسين أن يكون للحكومة، القدرة علي التخفيف من شدتها. 
 يثير رياض أيضاً قضايا محورية كلها تدور وجوداً وعدماً مع محنة الفساد واستغلال النفوذ مثل استاد جابر أو مستشفاه وجسره، ومعظم مشاريع البنية التحتية المنسية، وكلمة "تحتية" تعني هنا تحت البلاط، أي تخبئة أتربة الفساد المالي السياسي تحت السجاد، وهناك مسائل مثل تجارة الإقامات وغرامة "الداو"، كلها أتت، على سبيل المثال وليس الحصر، فهي أمور حياتية تثير قلقاً من بقائها واستمرار دورانها في حلقة ليس لها أول ولا آخر، فهل هناك جريمة إذا سأل عنها رياض؟ ولماذا لا نقرأ الاستجواب على أنه فرصة لرئيس الحكومة لتوضيح برامج حكومته ونياتها لحل معضلات الدولة التاريخية؟ فهل المطلوب من المواطن الصمت وطأطأة الرأس حتى لا يصدع دماغ الحكومة بمثل هذا الاستجواب؟!
احمد الصراف

ذكريات الجابرية ورماد الروضة

أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com

ليس من السهل على أي كويتي عاش مرحلة «غزو صدام»(*) للكويت أن ينسى مجريات 220 يوماً من الرعب والقتل والتشريد. فقد كانت تجربة رهيبة، فخلال ساعات أصبح ما «يساويه» المواطن أو المقيم ماديا لا يزيد على ما بجيبه من مال! فلا عقارات ولا أسهم ولا أرصدة مصرفية، فمن امتلك ألف دينار نقدا، كان أكثر غنى من صاحب الأسهم والعمارات. كما أصبحت حياة الإنسان لا تساوي «قندرة» عند الغازي، بعد أن محيت مقومات الدولة من الوجود، وألغي كيانها، فلا حكومة ولا جيش، ولا وجود فعال لأي مؤسسة، غير تلك التي اختار بعض المواطنين، وبمساعدة فعالة من مقيمين أوفياء، الاستمرار في إدارتها، كالكهرباء والماء! وقد استعدتُ ذكريات تلك الأيام، التي سأكتب عنها الكثير، وأنا أقرأ مذكرات الأخت إقبال العثيمين، في كتابها «رماد الروضة»، الذي أتمنى عليها أن تعيد كتابته وتضيف إليه الأكثر، ومع هذا فهو يستحق القراءة لمن عاش أو لم يعش أحداث تلك الفترة، التي كنت وأسرتي في الكويت عندما وقعت، وكان قراري البقاء وعدم المغادرة. وكنا قد انتقلنا قبلها بيوم للعيش في بيتنا الجديد، الذي لم يكن يحتوي إلا على الضروري من الأثاث، فغالبيته كانت لا تزال بحاوياتها. وأخبرني جاري بعدها بسنوات أنه أعجب بمثابرتي أثناء الاحتلال عندما رآني أقوم بمساعدة سائقي، بإجراء تشطيبات خارجية على البيت، وبناء ممر لدخول السيارات للداخل. ولكني اضطررت، وبعد صمود لم يطل كثيرا، للخروج من الكويت لسببين، أولهما ما سمعته من الـ«بي بي سي» عن قيام صدام بإرسال عمر غني، وهو سفير سابق في الكويت، لمصادرة كل وثائق وزارة الخارجية الكويتية، وغيرها! وحيث إنني سبق أن اختلفت مع هذا الأفاق في أكثر من حفل دبلوماسي، عن مسؤولية صدام الشخصية عن بدء الحرب العراقية – الإيرانية، وما وردني من تحذيرات من أكثر من صديق سفير من قدرة ذلك الشخص على الإضرار بي وقتها، إلا أنني لم أعبأ بذلك، ولكن عودته للكويت جعلتني أشعر بالخوف من أن يقوم بمصادرة حياتي، مع وثائق الحكومة الكويتية. كما كان السبب الثاني للمغادرة ما قام به جنود الاحتلال من مصادرة للأدوية المهمة من كل المستشفيات، التي كان ابننا طارق، بأمسّ الحاجة إلى البعض منها! وهناك قصص أخرى عن الغزو والاحتلال سنتطرق إليها بين الفترة والأخرى قبل أن تضمها دفتا كتاب قيد الإنجاز!
(*) الوصف الصحيح لغزو القوات العراقية للكويت في 1990/8/2، هو الغزو الصدامي وليس العراقي، كما جرت العادة، لأن من أمر بالغزو وقام به هو شخص واحد، وليس شعبا! ولهذا يوصف ما قامت به أميركا في العراق بالغزو الأميركي، لأن المؤسسة الأميركية المنتخبة والممثلة لشعب الولايات المتحدة هي التي قامت به، وليس فردا دكتاتورا!