لا يجب بأي حال من الأحوال، أن نشنَّ هجوماً ونقداً لاذعاً لمن يسمون أنفسهم (شيوخاً وعلماء طين) ممن يكسبون رزقهم من إثارة الفتن والنعرات الطائفية بين أبناء الأمة الإسلامية طالما أن رزقهم هذا يضمنه لهم ولي الأمر! فالأولى ثم الأولى أن توجه الانتقادات والأقلام والكتابات وتأليف الكتب والأبحاث والدراسات إلى أولياء الأمر الذين «يدسّمون» كل «شيخ طين» أجاد دوره في بث الفتن… أليس كذلك؟
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بتلقائية هو: «إذا كان أولياء الأمر من حكام الأمة لا يرتضون إثارة الفتن والعصبيات المذهبية ويشمرون عن سواعدهم بغضب ليحذروا من يقع في ذلك المستنقع من علماء الطين؛ لماذا إذن نجدهم في كل البلدان الإسلامية يسرحون ويمرحون ويقربهم هذا السلطان وذاك الوالي وهذا الرئيس؟ أليس للحكومات هنا دور مشجّع؟».
ومن بين الإجابات المقنعة ردّاً على ذلك السؤال، ما قرأته من أطروحات جميلة للباحثة والكاتبة والإعلامية السعودية نوال موسى اليوسف في حوار عميق مع مركز آفاق للدراسات الإسلامية، ففي تعليقها على قرار إغلاق القنوات التي تثير الطائفية، تشدد على أن ذلك القرار ليس كافياً لمنع استشراء الكراهية وإثارة النعرات الطائفية؛ وذلك لأن هذه الأزمة الطائفية منذ نشأت لم تتقهقر بفعل تطور الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبفعل تطور المجتمعات الإنسانية في العالم الثالث وتطور الحضارات وإتقانها، بل إن هذه الكراهية قابلة للعديد من الاحتمالات التي يمكن أن تتعدّد السيناريوهات المستقبلية للأوضاع في العالم الثالث.
اليوسف وضعت السيناريو الأول وهو بقاء وازدياد قدرة ذوي النعرات الطائفية على السيطرة على زمام الأمور وخصوصاً من جانب المتطرفين والمتشددين، بالإضافة إلى عدم اتخاذ إجراءات حاسمة لمكافحة الطائفية من قبل الحكومات في العالم الإسلامي. فالباحثة كانت مدركة لدور تلك الحكومات بل وأضافت اليها حالة فقدان الثقة بحكام ورؤساء الأنظمة العربية والإسلامية، وانخفاض درجة ومستوى القبول العام بهذه الأنظمة حول العالم العربي والإسلامي، وارتفاع وزن الجهاديين والمتطرفين نسبيّاً وخصوصاً لفئة القوى الإسلامية والفكرية والإعلامية المتشددة، وزادته أن موروث العالم العربي الثقافي لايزال رهين النظرة الأحادية للأنظمة الأحادية، والدين والمذهب الأحادي، والفكر والثقافة الأحادية، ولا يتعامل مع التعددية إلا من خلال الخطب وعلى منابر المؤتمرات والإعلام، وطالما بقيت هذه الأحادية؛ فإن تحقيق العدالة والمساواة بين السنة والشيعة وغيرهم من مكونات التنوع في العالم العربي والإسلامي سلبية في الوعي العربي، لكن هذا التغيير يمكن أن يحصل إذا كان هنالك وعي سياسي لدى الشعوب ولدى قادتها على الأمد القريب والبعيد. (انتهى الاقتباس).
النظرة الأحادية هي أيضاً ملاذ «شيوخ الطين» الذين أسهموا ولايزالون في مضاعفة البلاء في المجتمع الإسلامي، وهم عادةً يصفقون لأولياء نعمهم ولا ضير في أن ينكّلوا بالناس أشد التنكيل، ولعلني أشير إلى وصف شيوخ الطين أولئك من محاضرة قديمة للمرحوم الشيخ الشعراوي متوافرة على «اليوتيوب»
فيها من بين ما قاله (رحمه الله): «خطباء الفتنة الذين رآهم رسول الله (ص) تقرض شفاههم بمقارض من نار، فسأل: من هؤلاء يا جبريل؟، فقال هم خطباء الفتنة الذين يبررون لكل ظالم ظلمه، ويجعلون دين الله خدمة لأهواء البشر، وهؤلاء هم الذين يحاولون أن يجعلوا للناس حجة في أن يتحللوا من منهج الله، فهم يبررون ما يقع، ولا يدبرون ما سيقع… ذلك أن الدين ليس لتبرير أهواء البشر لكن الدين هو لتدبير أمور البشر.
إنهم، أي شيوخ الطين، من الخبث بحيث شجّعوا آخرين معهم للسير في ذلك الفكر الخبيث أيضاً، ليضاعفوا حريق الفتنة الطائفية في المجتمع ويستوردوا بضع أفكار تعينهم على ذلك.
المفكر البحريني علي محمد فخرو، في مقاله القيم: «الانتهازية السياسية في خدمة الفتنة الطائفية»، («الوسط»، 15 مارس/ آذار 2013)، قدّم نصّاً يختصر علينا المسافات: «أن ينجح أمثال المستشرق الصهيوني برنارد لويس في إقناع الدول الاستعمارية الغربية بالعمل الدؤوب لتأجيج الصّراع المذهبي العبثي السنّي – الشيعي فهذا أمر مفهوم ومنطقي! فمن خلال استبدال الصّراع العربي – الصهيوني بالصّراع الطائفي في داخل الإسلام، يعيش الاستعمار الصهيوني في فلسطين المحتلة في سلامٍ وأمن، ويزداد قوةً وتركيزاً في التربة العربية، ومن خلاله أيضاً ينشغل العرب عن المؤامرة الاستعمارية للاستيلاء على ثرواتهم والوجود العسكري والسياسي في أرضهم، وهكذا تكتمل حلقة إبقاء العرب في حالة ضعف وتخلُّف وتمزُّق، وإبعادهم عن مشاريع الوحدة العربية والاستقلال القومي والوطني وبناء تنمية إنسانية شاملة بالاعتماد على قواهم الذّاتية».
لكن حري بنا أن نتعمق فيما قاله فخرو لنعرف خبث مصدر أرزاق شيوخ الطين في قوله: «أن يمتدّ ذلك الفكر الاستشراقي الخبيث، وذلك المنطلق الخطر لأن يتبنّاه بعض العرب وبعض السَّاسة والمفكرين في مؤسسات المجتمعات المدنية، وأن تنفخ في تأجيجه باستمرار، فوق منابر المساجد والفضائيات التليفزيونية، أشكال من القوى السلفية المتزمتة دأبت منذ قيامها على تكفير من يخالف مدرستها الفقهية ومن تعتقد أنه لا ينتمي إلى جماعتها، أن يمتدّ بهذه الصورة المفجعة التي نراها ماثلة أمامنا وبهذا الانتشار الواسع؛ فإنه يصبح كارثة دينية وقومية وأخلاقية… لنتذكر أن الغرب لديه تجربة تاريخية غنيّة في حقل الصراعات الدينية والمذهبية بين مختلف كنائسه المسيحية، وخصوصاً بين الأتباع الكاثوليك والبروتستانت… لقد استمر ذلك الصّراع عندهم سنين طويلة، وقاد إلى موت الملايين، وأكل الأخضر واليابس وأفقر الأوطان والعباد. تلك التجربة هي التي يراد إحياؤها اليوم في أرض العرب والمسلمين». (انتهى الاقتباس).
إذن، ذلك الرزق الخبيث الذي يحصل عليه شيوخ الطين من أولياء أمرهم، يوجب أن ننظر إليه باشمئزاز ورفض؛ لأنهم يأكلون خبيثاً ويريدون لنا – عنوةً – أن ننصاع لأفكارهم الشيطانية… فتعساً لهم ولمن يمدهم بالمال.