في كل مرة يتحدث الناس عن الفساد في الدولة تأتي إجابة المسؤول جاهزة معلبة بجملة "هاتوا الدليل" وسنحاكم المتهمين عن الفساد! إجابة خاوية، فيها تهرّبٌ من المسؤولية وتحميلها للصدفة والقدر… والنتيجة الحتمية هي تكريس الفساد رسمياً وتوطيد أركان اللامبالاة، وتبلد مشاعر الغضب والرفض عند البشر، حين تصبح قناعتهم مختصرة في كلمات من شاكلة "ماكو فايدة أو خلها على الله والشق عود".
أكثر من صحيفة، خلال هذه الأيام، تناولت أزمة الاختناقات المرورية، ونقلت قليلاً من حجم هذه المأساة… ولا أدري إن كان سيادة المسؤول صاحب مقولة "هاتوا الدليل" فكّر ولو مرة واحدة عن أسباب الكارثة المرورية بالدولة، وتساءل إن كانت هي وليدة واقع الفساد المترسخ بالدولة أم لا؟! يعرف، ونعرف معه، أن هذه الكارثة في الكويت هي التجسيد الحي لفساد الإدارة السياسية في الدولة من ناحية، وإظهار عجز السلطة عن معالجتها أو حتى التخفيف من وقعها من ناحية أخرى، ومن المؤكد أن أصحاب القرار والسيادة المطلقة لا تشكل عندهم القضية المرورية أولوية، فأولوياتهم مستغرقة في تصفية حساباتهم الداخلية، وحدود المعارضة وكيف يمكن القضاء عليها، وتوزيع الكعكة المالية على دوائر المقربين من جماعات المؤلفة قلوبهم.
كارثة المرور هي نتيجة فساد سنوات طويلة، فساد مستوطن في وزارة الأشغال، وفساد مثله في بلدية الكويت، وآخر في إدارة المرور، وأخيراً هي نتيجة فساد أخلاق الكثير من السائقين الذين أَمِنوا العقوبة فأساؤوا الأدب.
وزارة الأشغال لم تخطط لحجم الشوارع وقدرة استيعابها في المستقبل، فهي كبلدية الكويت تعد مرتعاً خصباً لـ"الهبر" والسرقات والفساد، وتفصيل هدم الأرصفة وإعادتها من جديد من أجل عيون فلان وعلان… فأين هي من التدبير والتخطيط للشارع مادامت السلطة التي فوقها غير مكترثة بالشارع السياسي؟ أما البلدية… فحدثوا عنها ولا حرج… من العمارات التي ترخص من دون مواقف سيارات للمستأجرين… ومن غض النظر عن عمارات ومساكن خاصة مخالفة في عدد الأدوار، وتناسي توفير مواقف لسيارات الساكنين، فيوقفون سياراتهم في الشارع العام فتغلق الطرق… أما إدارة المرور فقد أصبحت "حمّال الأسية" التي عليها أن تفك معضلة تتجاوزها بكثير… فأضحى اللواء مصطفى الزعابي مثل "شريم" كيف له أن ينفخ من غير "براطم" (شفاه)… لكن في الوقت ذاته، هناك مسؤولية تاريخية على الإدارة المرورية وعلى وزارة الداخلية، إذ هناك الآلاف من السائقين حصلوا على إجازتهم بالرشوة أو بالواسطة، وهناك آلاف السيارات التي مرت من الفحص الفني رغم عدم صلاحيتها، وهناك حكايات مزعجة عن أصحاب "التكاسي" الجوالة وارتباطهم بضباط من وزارة الداخلية… والقائمة عريضة وطويلة مع تاريخ تلك الإدارة لا يستطيع مصطفى مهما أخلص في عمله أن يحل عقدها الملتوية، فهي عقدة السلطة السياسية بداية ونهاية… وهي عقدة الكويتي الذي يستورد السائق والطباخ والعامل والموظف مثلما يستورد السيارات "من غير رسوم" وبقية البضائع ويترك الأمور على عواهنها… فالأزمة ليست أزمة مرور… بل هي أزمة دولة "مسمرة" تمشي على البركة.
اليوم: 19 مارس، 2013
يوم اغتيال البراءة
لا يمكن تخيل مجتمع قابل للبقاء والازدهار من دون دعم أخلاقي كاف من السلطة! فليس هناك من عامل يؤثر سلباً في أي مجتمع كالتساهل في التعامل مع غرائز أفراده ورغباتهم، وتسهيل حصولهم على كل شيء دون مقابل! والأمم العظيمة هي التي اهتمت بتعليم الأخلاق لصغارها، ولم تعتمد في ذلك على «ثقافة» المجتمع وعاداته وتقاليده وتعاليمه الدينية، فالدين عادة يحث على التراحم والأخوة بين المنتمين له، وليس بالضرورة مع غيرهم، وهذا ما يضع أتباع أي دين في مواجهة مستمرة مع «الآخر»! ولهذا نجد في مجتمعاتنا من يتساءل أحياناً، عند تعرضه للخديعة أو السرقة، عما إذا كان من خدعوه يعتقدون بأنه يهودي يستحق أن يخدع ويسفك دمه! وبالتالي يجب أن تدرّس الأخلاق بكثافة في مراحل الدراسة الأولى، وتعطى أهمية كبرى على غيرها من المواد! ولو كانت هذه هي الحال، لما كانت هناك حاجة إلى كتابة هذا المقال، ونشير هنا إلى التفاوض المريب والمحموم الذي يجري بين المجلس والحكومة لإسقاط قروض المواطنين وفوائدها، فهذا، إن تم، يعتبر بحكم «الجريمة الأخلاقية»، لما سيكون له من تبعات سلبية مؤسفة على أجيال حاضرة وقادمة، فهذا «الإسقاط» ما كان ليتم لولا شديد رغبة السلطة والنواب لخلق شعبية زائفة وزائلة حتماً، وهو بحكم التفويض الرسمي للجميع ليسرقوا ويغشوا ويخدعوا ويدوسوا في بطن الأنظمة والقوانين ويتخلوا عن أي التزام أدبي أو مادي طالما أن «ماما الحكومة» ستأتي في نهاية المطاف وتنقذهم! كما أنه صفعة على وجه كل من التزم وسدد ما عليه، وكل من رفض الاقتراض، وهو قادر عليه، لعدم رغبته في «المشاركة» في سرقة مال عام ليس من حقه بقدر كونه من حق أبنائه وأحفاده! إن هذا التصرف من الحكومة، ولا ألوم المجلس النيابي بالقدر نفسه، سينسف عقوداً طويلة من التربية التي حاول البعض غرسها في نفوس أبنائهم، فقد شعرت وصديقي بومحسن بالحزن عندما قال لنا ابنه إننا أخطأنا كثيراً عندما نصحناه قبل سنوات بعدم الاقتراض، وأنه لو لم يستمع لـ «خرابيطنا الأخلاقية» لكسب الكثير! وقال إن علينا، نحن جيل السذج والمؤمنين بالعقل والمنطق والتصرف السليم، أن نتعلم أن السلطة ستخذل كل واحد منا المرة تلو الأخرى، ولن يكون هناك في المقبل من الأيام مكان لغير المفلس والنصاب، كما هي الحال في أغلبية دول العالم المتخلفة!
* * *
ملاحظة: لم يتردد الرجل الثاني في الدولة والقاضي السابق في الاعتراف بالحاجة إلى خبير دستوري «خارجي» لمعاونته في عمله التشريعي! ولا أدري بالتالي لماذا لا يقوم الرجل الخامس في الدولة بالاستعانة بخبيري مرور وأمن بريطانيين مثلاً لمساعدته في وضع حد لكل هذا التسيب الأمني والمروري الذي نعيشه؟
أحمد الصراف