إذا وضعنا معايير مثل الديمقراطية وحكم القانون، وما يستخلص منها كتكريس الحريات السياسية والاجتماعية من شروط تحقق دولة الرفاه لا يمكن أن نضع الكويت من بين دول الرفاه، فلا يكفي أن نقول إن الدولة تدعم السلع والخدمات الأساسية وتوفر التعليم المجاني والصحة والإسكان (تقريباً) حتى يمكن عد هذه الدولة من دول الرفاه، مثلها مثل الدول الإسكندنافية ومعظم دول أوروبا الغربية بعد الحرب الثانية، رغم تناقص وضع الرفاهية لتلك الدول بعد الأزمة المالية لسنة 2008، مثال ذلك اليونان، والبرتغال وإسبانيا.
حالة الرفاه التي وفرتها الدولة، ومثلها بقية دول الخليج، هي حالة الرفاه القبلية الريعية، بمعنى أنه كما كان يجلس شيخ القبيلة في تراثنا القديم في منتصف الخيمة، ويلج عليه أبناء القبيلة، فيوزع عليهم بأريحية خير المكان ولحظة الزمن العابرة، بعد أن يحجز لنفسه بطبيعة الحال حصة الأسد، كذلك تدار الأمور في دولنا النفطية بهذه الطريقة.
ولأن خيرات الوفر المالي لم تأت من عمل منتج أي بمجهود إنساني، وإنما هي "مناسبة" وصدفة اكتشاف النفط، أضحت العوائد (هي الريع) التي توزع يميناً ويساراً دون حساب للمستقبل، ومن غير تفكير للقادم، فأضحت الدولة برمتها تدار بهذا النهج الريعي.
الرفاه، بهذا المفهوم المنحرف، يعني توفير "النقد" وتسهيل الأمور على المواطنين، حسب المزاج الحاكم والظرف الزماني، وليس بمنهج مؤسساتي يمثل يقين الاستقرار القانوني. وتدار الدولة، عندها، بمنهج النقد الكاش أو العطايا، أو كما يسمونها سياسة الدينار، دون أن يقابلها التزامات مفترضة للدولة الحديثة من فرض ضريبة تقابل خدمة الدولة للمواطن أو مساهمته في تكلفة الخدمة العامة، وتفرض على النظام، بالتبعية، أن يلتزم بالنهج الديمقراطي، بمفهوم الثورة الأميركية، وبمعادلة لا ضرائب من دون تمثيل، لتصبح لا تمثيل ديمقراطياً من غير مساهمة المواطن بإيرادات الدولة، تصبح تلك المعادلة غير ممكنة مع وفرة عوائد النفط. فالسلطة ليست بحاجة إلى عمل أبناء الوطن، وبالتالي فهي غير ملزمة بمشاركتهم السياسية، فهم (المواطنون) عملوا أم لم يعملوا فسيصيب السلطة، وبالتبعية المواطنين، خير غيمة النفط أينما رحلت تلك الغيمة اللحظية في سماوات أسواق العالم، حسبما تقرر السلطة الحاكمة حظوظ ذلك المواطن من ذلك الخير، وكل حسب قربه أو حظوته من مراكز اتخاد القرار له نصيب، وتصبح الحريات والحقوق مثل تلك الواردة في دستور الدولة مجرد إملاءات محدودة الأثر من التراث التجاري للدولة، حين كانت الحالة المنتجة قبل النفط المتمثلة في مساهمة التجار عبر ضريبة عوائد التجارة هي المصدر المالي الواحد للحكم.
بذلك النهج الريعي تم تعميم الفساد في الدولة، فأوسع أبواب الفساد تدخل عبر قنوات الإنفاق العام، فلا مشروع خدمة أو بناء مرفق عام يمكن أن يتم دون "الحصة المعلومة" لصاحب المشروع أو من يقوم بتنفيذه، والصوت الذي يصور صاحبه نفسه كمعارض للنهج السلطوي الفاسد في البرلمانات الشكلية، يمكن أن "يضبط"، عادة، أما إذا كان هذا (النائب) الحريص على فضح الهدر والفساد في الإنفاق العام من المعاندين، فعصا العسف القانوني ستلاحقه أينما رحل، ولنا أكثر من مثال في الشهور الأخيرة.
تحذير رئيس الحكومة من أن الكويت سيصيبها عجز حقيقي بعد ثماني سنوات تقريباً وستتلاشى دولة الرفاه، يجب أن يؤخد مأخذ الجد، متى أخذته السلطة بالجدية ذاتها، وهذا لن يكون إلا حين تبدأ بنفسها، وترمم أبوابها التي ينخرها الفساد، فالمواطن ينظر إلى رجال الدولة كمثال، فمتى اعتدل الأخيرون في سيرتهم الإدارية وأصبحوا القدوة في حكم القانون والتضحيات والعطاء لمستقبل الأجيال، فالمواطن بدوره لن يمانع، ولن يتردد في المساهمة والعمل والتضحية بترف بعض الخدمات، لذلك اشرعوا بأنفسكم، وقدموا لنا مثالاً على ذلك، فحتى الآن لا نجد مثل هذا المثال المحفز، وهنا ترتفع صعوبة الإصلاح المطلوب، وتكاد تدخل باب المستحيل، لكن هذا لا يمنع من المحاولة، فبغيرها، ستكون كارثة، ومهما كان "الشق عود" لا بد أن تشرع السلطة برتقه، لتبدأ بثوبها، وما أكثر شقوقه.