احمد الصراف

الصحراء والتدوين

يعتبر المسلمون بشكل عام، والعرب منهم بشكل خاص، وأهل الجزيرة بشكل أخص، من غير المؤمنين بالتدوين، ويعتمدون على قضاء أمورهم شفاهة. وبالتالي لم يكن مستغربا أن الفن الوحيد العالي القدر الذي برع فيه العرب هو الشعر، لأنه لم يكن يتطلب، لإبهار الآخرين بجماله، أي مواد وألوان أو أدوات، بل مجرد ملكة حفظ وبراعة إلقاء، ومن ثم الانطلاق من جماعة إلى أخرى ومن ديوان إلى إيوان وإلقائه أمام كل جمع ونيل الثناء والعطايا عليه! ولا شك في أن قصائد عظيمة كثيرة فقدت، لأن أحدا لم يهتم بتدوينها، وما وصلنا منها لا يذكر. ولا يعني ذلك أن التدوين معدوم كليا، ولكن ما بين ايدينا من تراث يمتد الى فترة تقارب الألفي عام، شيء لا يذكر! ولو نظرنا إلى أهم حدث في حياة اي شخص عادي، وهو الزواج، الذي تترتب عليه تبعات جمة، لوجدنا أنه كان يتم، حتى فترة قريبة، شفاهة، ولم يكن يتطلب إشهاره غير القيام بـ«زفة» بطبل وزمر! ولولا ما أصبح يتطلبه الارتباط بالآخر من تبعات، وما تمنحه الحكومات من مزايا، لما اهتم كثيرون بتدوين عقود زواجهم، فمن اختار العيش في الصحراء وتلحف السماء لم يكن له خيار كتابة عقد زواج، دع عنك الاحتفاظ به في خرجه.
ومن جانب آخر نرى أنه لو عاد أحفاد مهاجر مسلم إلى البرازيل إلى موطن سابق جدودهم للبحث عن جذورهم، فغالبا لن يجدوا شيئا، وعكس ذلك مع احفاد المهاجر المسيحي مثلا، حيث سيجدون كثيرا عنه وعن جدودهم، وبمن اقترنوا منذ مئات السنين، لأن الكنائس عادة ما تحتفظ بسجلات زواج وتعميد كل من دخلها، حتى في القرى الصغيرة والبعيدة!
كان لا بد من هذه المقدمة الطويلة قبل الدخول في موضوع المقال المتعلق بحصولي من الصديق الباحث يعقوب الإبراهيم على صورة العدد 10 من صحيفة الدستور البصْرية، والتي كان عبد الله الزهير هو «صاحب امتيازها ومدير سياساتها»! والتي صدرت بتاريخ 12 مارس 1912، اي قبل أكثر من 100 عام، حيث ورد فيها أن ثمن الاشتراك فيها مجيديان في الممالك العثمانية، وعشرة فرنكات في البلاد الأجنبية، وللطلاب نصف القيمة! وقد ورد في باب الحوادث المحلية الخبر التالي: منذ ثلاثة اشهر وعلائم الأفراح بادية على ساحة حضرة المفخم والأمير المعظم جناب عز السلطنة سردار ارفع الشيخ خزعل خان أمير المحمرة وسرحدار عربستان، ايدنا بـ«ختان» حضرة شبله المحترم الشيخ عبد الحميد. وإذا ألقينا النظر إلى غرض مولانا الأمير من إطالة مدى الأفراح حال أن كل أوقاته فرح وسرور، نراه غرضا ساميا هو أن يعلم الجميع من قاص ودان، فيتمكن ذوو الحاجات من الفقراء والمساكين أن يؤموا ساحته ومنزله الرحب ليكون لهم مندوحة الدخول بلا استئذان فيأكلون هنيئا مريئا… وإذا أجلنا النظر من جهة أخرى نرى أن حضرة مولانا الأمير الكبير الشيخ مبارك باشا الصباح كان مصباح ذلك الفرح العظيم، مما يدل دلالة واضحة على دوام اتحاد وارتباط الأميرين في أفراحهما وكل شؤونهما، مما نتمنى أن يقتدي بهما أمراء العرب ورؤساؤهم.

أحمد الصراف

مبارك الدويلة

لا.. للطائفية

عندما حذرت في مقالتي السابقة من العدو الحقيقي لدول الخليج وقلت انه الحكم الطائفي في ايران والعراق، انزعج بعض الزملاء من الطائفة الشيعية ظناً منهم انني اقصد الشيعة كطائفة، وانني كتبت بصيغة العموم. ومع علمي بان الكتابة في هذا الموضوع مثل السير في حقل ألغام لا تعلم متى ينفجر فيك فيقتلك ويقتل من حولك، الا انني اجد نفسي مضطرا الى تأكيد بعض المعاني، خصوصا ونحن نشاهد هذه الايام ماذا تفعل الطائفية في العراق وسوريا ولبنان، وقد يصل لظاها الى الكويت وبقية دول الخليج ما لم نتدارك الامر قبل ان يستفحل.
انني ارى ان الخوف الزائد من الحديث في هذا الموضوع احد الاسباب الرئيسية لتفاقم آثاره، لذلك لا بد من ان يسارع العقلاء، ومن يضع يده على قلبه خوفا على بلده، إلى اخذ زمام المبادرة علّ وعسى ان يكون توجيه الحديث سليما وبعيدا عن التطرف واقصاء الآخرين.
السنة يرون ان التطرف الشيعي سبب المشكلة، والشيعة يرون ان الفكر القاعدي والسلفي الجهادي هو بداية الشرارة، وانا اليوم لا اريد ان اقول من المتسبب، لان هذا النقاش لن يوصلنا الى بر، بل سأناقش الظاهرة من حيث الشكل والنتيجة حتى نخلص الى خطوة عملية قد تساهم في تقليل المخاطر والآثار، أما العلاج الجذري للظاهرة فهذا من سابع المستحيلات، مع الاسف، نتيجة تراكمات سنين طويلة من التربية والتثقيف أدت الى ما وصلنا اليه اليوم.
التاريخ الاسلامي تاريخ مشرّف، ويحق للاجيال ان تفتخر به، لانه احيا امة كانت مهمشة على مر العصور والدهور، وجعلها تقود الامم وترسم التاريخ في فترة وجيزة. لكن هذا لا يمنع من العثرات بين حقبة واخرى ما دام انهم بشر. لذلك، الحديث عن هذه العثرات وابراز الجانب السلبي منها بعد اربعة عشر قرنا ما هو الا ضرب من الجهل والغباء، ان كان بحسن نية او بسبب لاثارة الفتن ان كانت بسوء نية! فالحديث عن حادثة السقيفة واحقية ابي بكر او علي بالخلافة هو حديث مأكول خيره، كما نقول بالعامية، لاننا لن نغير من التاريخ شيئاً ولاننا لن نتحمل اخطاء الآخرين، إن وجدت، قال تعالى «ت.لْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (البقرة: 134). وما يقال عن السقيفة يقال عن موقعة الجمل وصفين، والخلاف في فتنة مقتل عثمان وغيرها من الحوادث التي لم تعرقل مسيرة الخلافة وبناء الدولة الا في فترات قليلة، لكن الاثر الاكبر لها شاهدناه نحن جيل اليوم، حيث اصبح الحديث عنها الآن سببا لاثارة النعرات الطائفية وتأجيج الخلافات بين الطائفتين في مشهد لم نسمع عن حدوثه في الماضي.
الخلاصة ان الطائفية بدأت تأكل الفريقين وتجتثهما، وان شعور كل طرف بانه على حق سيقضي على الطرفين. والمصلحة اليوم تستوجب وقف هذا التطرف الذي بدأ يحصد الانفس بينما العدو الحقيقي يتربص بنا الدوائر.
قد يقول قائل ان هذا المقال تراجع عن رأيي في مقالي السابق، وأؤكد للمرة الثانية ان الطائفية متى ما مورست في اقصاء الآخر فهي مرفوضة، وهذا ما يحصل اليوم في ممارسة الحكم في ايران والعراق، حيث باسم الطائفية يتم اخراج السنة من اللعبة السياسية، ولو مورست في بلد آخر الطائفية السنية التي تبيح قتل الشيعي لرفضناها كذلك كما رفضنا الكثير من ممارسات وافعال تنظيم القاعدة، لكن الصورة اليوم اوضح في الدول التي تحكمها الطوائف. اعتقد ان المسؤولية اليوم تقع على الدولة التي يجب ان تتبنى قيادة المبادرة لوضع حد لهذه الفتنة ما دام في الامر متسع قبل ان يفوت الفوت حيث لا ينفع الصوت.