محمد الوشيحي

الصفراء أم شطفة

الذاكرة ما الذاكرة؟ تتساقط منها أحداث لا حصر لها، وتحتفظ ببعض الكراكيب… وكنت طفلاً عندما قيّض لي الحظ أن أشتري حذاءً أصفر، فردته اليمنى مشطوفة، شكله غريب مريب، اشتريته بفلوس مكافأتي من والدي لحفظي "سورة عبس وتولى" من القرآن الكريم، وكانت مكانة الحذاء في قلبي تفوق مكانة الألماس البلجيكي، وكنت وأنا أحمله في يدي لا أغبط السلطان بلقيه في قصره، ولم أخش شيئاً إلا تدافع المعجبين إذا انتعلته وخرجت به إلى الشارع، وأسئلتهم التي لن تنتهي: "من أين حصلت عليه؟ وما هو شعورك؟ وهل تسمح لي بتجربته؟ ووو"، كان الله في العون، هذه هي ضريبة بو شطفة.
وخرجتُ بالحذاء الكريم… ومضت دقيقة، تبعتها دقيقتان، وعشر، وكرّت مسبحة الدقائق، ويا للهول، لم يتدافع المعجبون، ولا حتى معجب واحد ولو بالمصادفة، سحقاً لهم، ولم يسألني أحد ما هو شعورك، وخنقتني العبرة ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقررت أن أبادر أنا بعرض "الأصفر أبو شطفة" على المارة وعابري السبيل، فانتظرت أول عابر، وكانت عجوزاً تسكن في آخر الشارع، وجهها هو المصدر الرئيسي للتجعيد، فيه سبعون خطاً ويزيد، ورحت أمشي بالقرب منها، علّها ولعلها تسألني عن شعوري أو تستجديني تجربته، لكنها لم تلحظ شيئاً، فاضطررت إلى رفع طرف دشداشتي كي يظهر الحذاء وتظهر الشطفة، لكنها "ولا في البال"، فلم أجد مناصاً من لفت انتباهها بالتصريح بعد أن فشل التلميح: "ما رأيك بشطفة حذائي؟" وأشرت إليه، فأجابتني بأدب: "إذا لم تحمل شطفتك وتبتعد عن طريقي فسأقطعها على دماغك"، فابتعدت عن طريقها، لا خوفاً على دماغي بل على حذائي.
وانتظرتُ مرور غيرها من أهل الخير وذوي القلوب الرحيمة، علّ أحدهم يقدّر قيمة هذه الشطفة المباركة، لكن بادرة أمل واحدة لم تلح في الأفق، فلم يعد أمامي إلا أن أطرق الأبواب لأستعرض حذائي أمام أقراني الذين ناموا استعداداً للمدرسة صباح غد. وبدأت حملة طرق الأبواب، ففتح لي والد أحدهم، وما إن رآني حتى تجهم وصرخ: "نعم؟"، فأعطيته جانبي الأيمن وأنا أتبسم بزهو، ورفعت رجلي وكأنني مضطر إلى حك قدمي، عسى أن يرى الشطفة فينبهر فيفتح معي حديثاً مطولاً مليئاً بالأسئلة التي تبدأ من: "ما هو شعورك؟" ولا تنتهي إلا بطلب تجربته، وكنت سأسمح له بتجربته، لكن المثل يقول "خيراً تعمل شراً تلقى"، فبدلاً من الانبهار بحذائي، شدني من ياقة ثوبي فخنقني فبكيت، وراح يشتم ويسأل: "ابن مَن أنت؟ اعترف… ماذا تريد من ابني؟" ودون أن ينتظر إجابتي ركلني بكعب رجله على ظهري ففقدت أنفاسي وكدت أموت.
ولا يأس مع "الأصفر أبو شطفة"، لكنني خفت من فكرة طرق الأبواب، فقررت أن أوقظ صديقي من دون أن يستيقظ والده، فرميت شباكه بحجر كما كان يفعل عبدالحليم حافظ مع شادية، لكن صديقي ليس شادية، لذا انكسر شباكه لعنه الله، فولولتُ ولطمت رأسي، وحملت أبوشطفة في يدي وأطلقت لساقيّ العنان، ولم أتوقف إلا على مشارف الفحيحيل لشدة الهلع.
وجلست مستنداً إلى سور إحدى المدارس أستجمع ما بقي من أنفاسي وأعيد ترتيبها وأوقف نزيف الدم من قدميّ الحافيتين… وتوالت المحاولات، لكنّ أحداً لا يريد أن يعطي أبوشطفة مكانته التي تليق به، إلى أن علمتُ لاحقاً أن الشطفة ليست إلا عيباً مصنعياً، بدليل أن الفردة الأخرى تخلو من الشطفة.
ويخرج الشعب الكويتي بديمقراطيته الصفراء أم شطفة، يستعرض بها أمام المارة من الأوروبيين والدول المحترمة، عل أحداً يسأله عن شعوره، ولا أمل، فيطرق الأبواب ويكسر الشبابيك ويهرب إلى مشارف الفحيحيل، ويكتشف لاحقاً أن ديمقراطيته بشكلها هذا ليست إلا عيباً مصنعياً، بدليل أن حريته مرتبطة بمزاج السلطة، وحكومته التي تقرر مصيره لا يختارها.

حسن العيسى

سلع للبيع

إذا لم تكن هذه المحسوبية بجسدها وروحها النتنة، فماذا تكون إذن؟! الخبر الذي جاء بالصحافة أن عدداً من الذين رفضتهم إدارة الفتوى رفعوا دعاوى أمام المحكمة الإدارية طالبوا فيها بإلغاء قرار تعيين 22 قانونياً بإدارة الفتوى والتشريع على سند أنهم حصلوا على شهادات من جامعات غير معترف بها من الحكومة وبمعدل أقل من المطلوب! طبعاً، هي الحكومة ذاتها الوصية على روح العدل والمساواة في الدولة، والتي يتنطع أربابها وحواشيهم دائماً بالاستقامة السياسية في إدارة الدولة ورسم "سياستها العامة".
وأياً يكون الرأي الذي ستنتهي إليه المحكمة في تلك الدعاوى، فإن هذا الواقع المخجل يشهد كيف تدير السلطة أمور الدولة، وكيف ينبض بالحياة على أرض الواقع مفهوم "السياسة العامة" لمجلس الوزراء الذي تحصنت سلطاته إزاء مجلس الأمة بعد حكم المحكمة الدستورية الأخير.
المحسوبية هي الواسطة، وهي الفساد يمشي على قدمين، وليت القضية حصرت في جماعة محددة من المجتمع مثل الذين رفضت طلباتهم إدارة الفتوى، أو جماعة أخرى غيرهم لمسوا الظلم باليدين ورفعوا أمرهم إلى القضاء، فعندها سنقول إنها واقعة أو وقائع محددة لا يمكن القياس عليها وسينتهي أمرها حين تطرق أبواب قصر العدل، لكنها ليست كذلك، هي ممارسة عامة للسلطة في جل شؤونها، وهي عرف وأعراف السلطة و"سياساتها العامة".
هي السياسة العامة للسلطة التنفيذية ليست فقط في التعيينات بجهازها الكسلان والمترهل، بل بكل صغيرة وكبيرة في دولة "إن حبتك عيني ما ضامك الدهر"، وما أكثر الذين عشقتهم عيون السلطة، هم من المعارف والمقربين، هم شعراء المديح وكتاب التبرير، وهم الذين لا يتنازلون أبداً عن شعارهم القديم المقدس الذي كان بالأمس تحت عنوان "الشيوخ أبخص"، واليوم بشعار "الحكومة أبخص". فهي أبخص حين تفصل المناقصات والمزايدات على مقاس "ربعها"، وهي "أبخص" حين تعين أقارب ومعارف "اربيعها" في الوظيفة العامة، وهي أبخص حين تشرع كوادر الهدر المالي وحرق المستقبل لجماعتها وتتناسى غيرهم ومن هم أحق، هي حكومة "البخاصة" المسكينة التي لا تعلم (وحسن النية مفترض) كيف قفزت أرصدة نوابها إلى خانة الملايين بين يوم وليلة، وكيف تفجرت منابع الثروة بالأمس ـ وحتى اليوم- فجأة للعارفين بدروب الخير ومسالك الصالحين في أرض النفط وزمن "من سبق لبق".
هل هناك أي أمل بالإصلاح! وهل ستخيم على أحلامنا كوابيس "البوعزيزي" بتعبير "الشال"، ونضع أيدينا على قلوبنا كلما امتد بنا العمر ونظرنا إلى أطفالنا وماذا يخبئ لهم قدرهم في دولة "سيروا على البركة"! الاجابة غير متفائلة، فمادام سعر برميل النفط ظل مرتفعاً فستبقى معه ضمائر الكثيرين سلعاً للبيع  في مزادات السلطة.

احمد الصراف

ليس حباً في معاوية.. ولكن!

يقول المثل: «كثر الدق يفك اللحام»، فعندما صرح وكتب كل ذلك العدد من الكتاب والمعلقين ببراءة إيران من تهمة محاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن، وتصويره وكأنه مؤامرة أميركية للوقيعة بين إيران والسعودية، حتى «كدت» أؤيد رأيهم، وأتفق بأن في التهمة شيئاً ما، خاصة بعد أن شارك في حملة الدفع ببراءة النظام الإيراني من عرف عنهم شديد عدائهم له، ولكل ما يمثله من ثقل ديني، مع علمي بأن منطلقاتهم ليس حباً في علي بقدر ما هو كره في معاوية! أقول انني وبسبب استمرار ذلك الدق المركز والمستمر ببراءة إيران، وهو ما لا يمكن استبعاده تماما، إلا تصريح علي لاريجاني رئيس البرلمان الإيراني لرئيس مجلس الامة جاسم الخرافي في لقائهما الأخير، جاء ليعيد لي صوابي، فقد صرح بأن المتهم الأميركي بمحاولة الاغتيال، الإيراني الأصل، كان شخصاً معتوهاً، عندما كان يعيش في إيران، وبسبب عتهه ذاك تم ابعاده منها قبل 30 عاما! ولو صح ذلك لادعى نصف سكان إيران بالعته ليتم استبعادهم إلى أميركا وأوروبا! إضافة إلى أن هذا التصريح هو إقرار من أعلى سلطة تشريعية في إيران بأن كل من يشك في عتهه يبعد عن البلاد، ويعني كذلك أن الجمهورية الإسلامية شبه خالية الآن من المعتوهين!
من جانب آخر، نرى أن الكثير من الأنظمة العربية، والإسلامية المتشددة بالذات، لا تجد وسيلة أفضل لاشغال شعوبها والهائهم عن مشاكلهم اليومية وقضاياهم الإنسانية ومطالباتهم بالحريات والحقوق المدنية، لا تجد أفضل من القضية الطائفية والتلويح بقميصها وبخطورتها بين الفترة والأخرى، ليبقى هاجسا يقظا في النفوس! ويعتقد البعض أن هذه الأنظمة تقوم بتصوير إيران ومذهبها الشيعي، كفزاعة، وتقول لهم بصراحة إن البديل يعني في جميع الأحوال «دولة شيعية كبرى»! وهذا النوع من التهديد كفيل بإسكات أعلى الأصوات المطالبة بالتغيير! والغريب أن إيران، بتصرفاتها وتصريحاتها، تزيد من تخوف هذه الشعوب منها ومن طموحاتها بسبب شديد تركيزها على القضية الطائفية، فهل من مخرج من هذا المأزق؟
لا تزال قضية الاتهام في بداياتها وستتطور بشكل كبير خلال الأيام القليلة المقبلة، وقد تكون كافية لقيام إسرائيل بضربة استباقية لمشاريع إيران النووية، وسيقربها ذلك كثيرا لقلوب بعض القيادات والشعوب العربية المعادية لنوايا إيران وطموحاتها!

أحمد الصراف