عبداللطيف الدعيج

على ما شطتكم.. على ما..؟

نواب مجلس الأمة الذين اشتطوا لطلب الجلسة الطارئة مطالبون بأن يبيّنوا لنا، نحن الناس اصحاب المصلحة واصحاب السلطة والسيادة، مبررات عقد الجلسة، او بالاحرى مبررات رفضهم لتصحيح اسعار النفط. اعضاء مجلس الامة لم يعترضوا على نوايا الحكومة في التقشف، ولم يتساءلوا عن حيثيات برنامجها الاصلاحي. بل الأغرب من هذا كله ان اعضاء مجلس الامة لم يتنادوا لعقد جلسة طارئة، عندما فقدت الدولة والوطن والناس ثمانين في المئة من دخلهم عندما تراجعت اسعار النفط الى عشرين دولارا للبرميل. لم يكن شأنهم، وفي الواقع لم يكن شأن أي من «جهابذة» تويتر من المعترضين على رفع اسعار الوقود. فالجميع تظاهر بانه خارج المشكلة، او انها اصلا ليست موجودة.. او ان على الدولة ان تتحمل وحدها مسألة حلها. وهذا في الواقع هو واقع الحال في الكويت. فالدولة تتكفل بكل شيء وتتحمل وحيدة كلفة كل شيء.
فقدت الكويت ثمانين في المئة من دخلها، ومع هذا لم يعبأ احد ولم تهتز او ترتعش وطنية احد. الكل تغاضى عن «الكارثة»، والكل أدار وجهه نحو الصراع الطائفي او الانشغال باوضاع سوريا او اليمن او الانقلاب التركي. هذه «القضايا»، ان جازت تسميتها بقضايا كانت الشغل الشاغل للثوار والمعارضين. اما انخفاض اسعار النفط والخسارة الرهيبة التي منيت بها الكويت، فلم تكن من شأن احد. فهذا امر تضطلع الدولة به. وهي المسؤولة عن مواجهته وليس الناس.
وعندما تولت الدولة او الحكومة مسؤوليتها، وقررت معالجة الوضع بخفض الانفاق، اي رفع الدعم عن بعض السلع، انتبه الجهابذة فجأة واكتشف الكثيرون وطنيتهم وانتماءهم، وارتفعت حناجرهم ضد خطوات الحكومة الاصلاحية.
لست من مؤيدي رفع الدعوم بلا مقدمات او تمهيد. لكن لست اعترض عليها من حيث المبدأ كما يفعل اغلبية، بل كل المعترضين. الوقود والماء والكهرباء سلع. من المفروض ان يدفع «المستهلك»، وليس المواطن ثمن كلفتها. والمُنتج اي الدولة في هذه الحال ليس معنيا بقدرة المستهلك، بقدر ما هو معني بكلفة انتاج هذه السلع. هذا هو الوضع الطبيعي، فالمستهلك يسعى الى رفع دخله والى العمل بجهد اكثر او وقت اطول، كي يتسنى له توفير ثمن السلع التي ينوي استهلاكها.
هنا، اغلبية المعترضين على رفع اسعار الوقود «حاطين ريل على ريل»، والحكومة تدفع رواتبهم. وليس لديهم اي استعداد لا في الجد والعمل وتوفير اللازم للتوافق مع الاسعار الجديدة، ولا حتى في الاقتصاد في الاستهلاك وتوفير الفرق عبر التقليل من اللف والدوران او «الهياتة» في الشوارع بتعبير أدق.
ولو توقف الامر هنا لربما هان رغم مصيبته. لكن الوقود او البنزين الذي رفعت اسعاره مملوك للناس. للمستهلكين انفسهم. اي ان فارق السعر سيذهب الى خزينتهم. وسيصب في النهاية في الميزانية العامة للدولة التي تتولى الانفاق عليهم. لكن المعترضين على رفع اسعار الوقود يولولون، وكأنهم سيدفعون للآخرين او للجشِع من تجار او للمحتل الاجنبي، لا سمح الله!
مرة ثانية.. لست مع رفع الدعم الفجائي عن السلع. فكما بينت سابقا، فان رواتب واجور العاملين هنا في الكويت، في القطاع العام او القطاع الخاص، محسوبة ومفصلة على الدعوم والخدمات المجانية او شبه المجانية التي تقدمها الدولة. وبالتالي فان رفع الدعم عن السلع يتطلب قبل ذلك تصحيحا كبيرا ورهيبا في اجور ورواتب العاملين، تماما مثلما يتطلب تصحيح رواتب العمالة او البطالة المقنعة من اغلب موظفي وعمال الدولة الذين يتقاضون رواتبهم بوصفهم كويتيين وحسب.
لهذا، فان رفع الدعم او تصحيح اسعار الخدمات مع ضرورته ليس هو الحل. بل الحل يكمن في توفير فرص عمل حقيقية للمواطنين، تخفف العبء عن الميزانية او بند الرواتب والاجور الذي يستهلك معظم الدخل النفطي، في الوقت ذاته الذي يوفر دخلا حقيقيا للدولة عبر فرض ضرائب او رسوم على المنتجين الحقيقيين الذن يصنعون وينتجون ويربحون من دون الاعتماد على الميزانية العامة او الانفاق الحكومي. المطلوب توفير بدائل دخل غير الدخل النفطي، وفرص عمل حقيقية خارج الجهاز الوظيفي الحكومي المشبع والمترهل، والذي لن تغطي اجوره مستلزمات الحياة في حالة تصحيح اسعار السلع والخدمات.
لهذا انا لا اتفق مع افتتاحية القبس يوم الاربعاء الماضي، والتي ركزت على تخفيض الانفاق، وخاصة في تبني الحل السعودي الذي اقتصر على خفض رواتب ومكافآت الموظفين لمواجهة التحدي الاقتصادي المتمثل في انخفاض اسعار النفط. ليست المشكلة هي ضخامة او ارتفاع اجور ومكافآت القياديين، وليست المشكلة حتى في انخفاض اسعار النفط. بل المشكلة الاساسية انه تم تدميرنا اجتماعيا ونفسيا مع بداية تدفق الثروة النفطية.
طالما ان انتاجنا الوحيد هو النفط، ودخل الدولة هو من النفط وحده، فان هذا يعني اننا شعب لا ينتج. او بشكل دقيق اكثر.. هناك بضعة آلاف يعملون في القطاع النفطي، والبقية يتعيشون عليهم، او بالاحرى على جهود الشعوب المستهلكة للنفط. لهذا فان الحل الحقيقي يكمن، كما رددنا مرارا، في خلق موارد موازية للدخل النفطي، ودفع العمالة المتخفية تحت البطالة المقنعة للعمل والانتاج، ورفع عبء اعالتها والاعتناء بها عن الدولة.
اعتقد ان احدا لا يريد ان يسمع هنا. لان الحل صعب، بل ربما غير ممكن. فليس لدى الكويت مواد اولية كي يتم تصنيعها، وربما لن تتوافر لنا الخبرة والقدرة على منافسة الدول الصناعية القديرة. لكن مع هذا هناك الصناعات الخفيفة، وصناعة التجميع التي تولتها دول شرق آسيا. وستكون لنا الافضلية هنا لامتلاكنا «الطاقة» الرخيصة والقريبة التي يعوّل عليها لانتاج اي شيء. لست خبيرا اقتصاديا ولا تنمويا، ولكني ارى طاقات بشرية متعلمة ولديها اساسيات المعرفة، ولكن اغلبها يتعيش على فرص التوظيف الوهمية التي توفرها الدولة، وعلى بدلات العمل التي ترهق الميزانية، ولا تعوض الانفاق العام. لهذا يجب التفكير والعمل على استغلال جهد هؤلاء، بدلا من اللهث خلف تقليل كلفة الانفاق التي لن تجدي، واقول على الاطلاق، بسبب طبيعة وتكوين المجتمع الكويتي.
ما اقصده هنا.. هو اننا في النهاية مطالبون باعادة بناء الانسان الكويتي، وتجاوز التدمير والتخريب الذي خلفته الطفرة النفطية. اي ان علينا مواجهة ما يتهرب منه الجميع، وهو إعادة النظر في علاقاتنا وطبائعنا ومكتسباتنا التي خلقها «الإنفاق الريعي».

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *