محمد الوشيحي

ميّل وحدف منديلو

الحبل في هذه المقالة على غارب القلم، سأدعه يقودني إلى حيث يشاء فقد تعبت من القيادة، وحان دوري لأن أريح الكرسي إلى الخلف، وأضع غترتي على عيني، وأتمدد، وأغط في بحور السكينة.
وسحقاً للنساء، فحديثهن كالشِّعر، أعذبه أكذبه، وحديثنا عنهن كالسيجار، ممتعٌ مُضِر. وتباً لتلك الحسناء، ذات الحسن الذي يستدعي الاتصال بالشرطة.
وكنا وكانت الأيام، وكانت رحلتنا إلى لندن، أو “لندرة” كما يسميها عمنا الكبير محمود السعدني، رحمه الله، وكانت الميزانية تتطلب التقتير حتى في التدخين، وكنت يافعاً متحفزاً للخناق والصعلكة والصياعة، وكان “الشنب” على وجهي في بداية رحلته العملية، لم أتسلم منه إلا العربون، الدفعة الأولى فقط، بضع شعيرات، وكنّ يجلسن بالقرب منا، أو كنا نجلس بالقرب منهن، ستّ صبايا أو سبع، لا أتذكر، ولا يهم، الذي أتذكره بشدة أن جمالها هي وحدها موجع، وقوامها قاتل، وضحكتها إعلان حرب عالمية، سحقاً لأبيها وأمها، ولكل القتلة المجرمين.
وكنت ساهياً، في بداية الأمر، لاهياً، مشغولاً بالفراغ، فرأيتها، فخنقتني العبرة، وتمتمت بلا وعي: “إنا لله وإنا إليه راجعون”، ثم التفتّ إلى الطاولة الأخرى فرأيت خرتيتاً تسلل خلسة تحت غطاء الليل وزوّر في الأوراق الرسمية فأصبح من بني البشر، يجلس بغرور تاجر الخضراوات في موسم الحصاد، يغازلها ويسبّل عينيه لها، وجنتاه المنتفختان تتحرشان بكفّي وتستفزانه، وعلّق صديقي: “ملابسك التي ترتديها، والتي اشتريتها من سوق الفحيحيل، لا تسمح لك حتى بمغازلة خادمتها، فاحترم نفسك”، فتفقدت ملابسي، وتفقدت ملابس الشبان في الطاولات المحيطة، فاحترمتُ نفسي وأطرقت وأنا أكابد الغرغرة، لكن عينيّ لم تحترما نفسيهما، وراحتا تسيران على أطراف أصابعهما إلى حيث تجلس ابنة القتلة.
والتقت الأعين، أي وربي، ويا للهول، فعلَت هي كما فعلت أنا، وراحت ترسل عينيها على أطراف أصابعها إلى حيث أجلس، ويا لأم الهول، تبادلت أعيننا الالتقاء طوال الجلسة، وبدأتُ مشوار بلع الريق، وفقدت السيطرة على تفاحة آدم، التي راحت تمشي على حل شعرها في رقبتي بلا حسيب ولا رقيب، ثم فجأة، نهضت، ابنة القتلة، مع صويحباتها، فوقع قلبي على الأرض، لكنها تبادلت الهمس مع إحداهن، فاستدارتا واقتربتا من طاولتنا، ورفعت صويحبتها صوتها لبقية البنات، كي يسمعنها، أو كي نسمع نحن: “سنكون في المطعم الفلاني الساعة تسع، تعالوا لنا هناك”، وابتسمَت، فخيّم على طاولتنا الصمت للحظة، قبل أن يرتفع صوتي بالغناء ويردد خلفي أصدقاء السوء والفقر والصياعة، بصوت كان بالتأكيد سيُغضب عبدالحليم حافظ وصديقه الشاعر محمد حمزة، رحمهما الله: “ميّل وحدف منديلو، كاتب على ظهرو أجيلو”، فهرولت وصويحبتها مبتعدتين.
وقبل الموعد بأكثر من ساعة، كنا على باب المطعم الفاخر، أنا وزمرة الصعاليك، ننتظر الغيث، وجاءت، متلحفة بحسنها وحيائها…
وقبل أيام، توصلت إلي، وبادرتني، ما إن دخلت إلى مكتبي، بكل أنوثتها وبلهجة فيروز: “كيفك، قال عم بيقولوا صار عندك أولاد؟”، فأجبتها، وأنا أتمعن كمية حسنها الهائلة، بكل دفاشتي وبدويتي: “شابت لحانا يا بنت”، ثم أفصحَت لي عن سبب زيارتها: “جئت لأسلم عليك بعد أن رأيتك في التلفزيون”، وأضافت: “أنا لا أتابع الشأن السياسي مطلقاً، فأشِر علي، لمن أمنح أصواتي الانتخابية في الدائرة الثالثة؟”، فأجبتها بسرعة: “بالتأكيد ليس لفلان ولا فلان ولا فلانة”، فعاجلتني بغضب بنات الأصول: “سامحك الله، وهل كنت تظن أنني بهذا المستوى؟”، فتضاءل صوتي خجلاً واختفى، فغيّرَت مجرى الحديث وهي تخفي ثغرها بأناملها لشدة ضحكها: “محمد… هل تتذكر، ميّل وحدف منديلو؟”.
وغادرت مكتبي إلى حياتها، حيث لا سياسة…

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *