هنا لن أذهب بعيداً إلى مدن أوروبية أو أميركية كي أطالب بقاعدة يعرفها طالب مبتدئ في التخطيط العمراني، وهو «الفصل بين السكني والتجاري» في مدننا، وإنما قريباً، إلى الكويت، إذ تفرض بلديتها نظاماً صارماً جعل الحي السكني فيها الأفضل خليجياً.
استضافني صديق هناك، كان الجو يومها ربيعياً فجلسنا بديوانية خارج منزله، المساحة رحبة بما فيه الكفاية أن ضمت ثلاثة كراسي شريط، كما نسمي نحن الكهول تلك الكراسي المرتفعة التي تكفي ثلاثة أشخاص، التفت مثل حرف (يو)، وبينما كانت استكانات الشاي لا تتوقف عنا، كان جيرانه يمرون أمامنا، يحيونه، حياك الله أبو سالم، يرحب بهم، يدعوهم للانضمام إلينا، بعضهم يفعل وآخر يعتذر، فهو إما يتريّض أو متواعد مع جار آخر، نظرت «يمنة ويسرة»، حي سكني 100 في المئة، يستحيل أن تسمح البلدية لمالك منزل بأن يحول دوره الأول إلى بقالة أو مغسلة، بل لا يستطيع أن يؤجرها لشركة، الاستثناء الوحيد هو «رياض الأطفال»، وقد أخبرني أبوسالم أن ذلك كان بعد نقاش في المجلس البلدي للتسهيل على المرأة العاملة التي تفضل هي وزوجها أن تترك اطفالهما في روضة قريبة داخل الحي، ما عدا ذلك مستحيل.
نحن نفعل كل ما سبق، أحصل على استثناء فأحول بيتي إلى مقهى، على رغم أن هناك نظاماً بلدياً يعطي الحق للجيران برفض ذلك، ولكنه إما أننا لا نهتم، أو لا نعرف عن هذا الحق أو صاحب المقهى لديه واسطة قوية، المقهى الأول يصبح قاعدة يستخدمها الجار فيحصل على استثناء بفتح مطعم، بعد أشهر، يحيط بمنزلك مقهى ومطعم وبقالة وصيدلية ومغسلة ملابس، ربما في الفيلا المجاورة معمل لخلط المعسلات.
لدينا أيضاً مبدأ «الشارع التجاري» من هناك تنتشر أحزمة من المحال التجارية المتكررة، غالبها يعمل بالتستر، سماها المهندس عبدالحميد الذياب والمهتم بالتطوير العمراني والحاصل على ماجستير في نفس الحقل «الأحزمة التجارية الناسفة» بمقالة رائعة، حري بكل مسؤول وأمين بلدية أن يطلع عليها، ويقصد أنها تنسف كل خطط التطوير العمراني فتشوه الأحياء والمدن وتشتت نسقها «شذر مذر».
في مقالته يكشف الذياب أن «نصيب الفرد من المساحات التجارية المبنية في الرياض هو حوالى 11.8 متر مربع ولا يشمل ذلك الاستخدام الحكومي، ولا الصناعي أو المدارس، بينما المعدل لقطاع التجزئة لكل شخص في لوس أنجليس ـ كاليفورنيا وهي مدينة سياحية 3.2 متر مربع، وفي فينيكس ـ أريزونا وهي مدينة مشابهة لأجواء الرياض 4 أمتار مربعة فقط!» أي أن في الرياض متاجر أكثر من المدينتين الأميركيتين بأربعة أضعاف، قد يبدو ذلك غريباً، إذ نتذكر تلك الأسواق الواسعة وحولها مواقف السيارات الهائلة أيضاً هناك، ولكن من الواضح وبحسب الإحصاءات أن حولنا من المطاعم والحلاقين والصيدليات والبقالات ومحال السباكة والكهرباء والمعسلات والمغاسل والمخابز وبيع الجوالات، بل حتى ورش النجارة ولف المواتير، هل نسيت شيئاً؟ أكثر مما يحيط بالأميركي في مدينة هائلة مثل لوس أنجليس.
هذه المحال لم تعد تكفيها الشوارع التجارية، فأخذت تتسلل حتى داخل أحيائنا بسياسة الاستثناء و«حق الجار»، حتى أضحت هناك بقالة لكل مواطن! من الواضح أن هذا تشويه كبير للمدينة والحي، لذلك أطالب بإضافة «الفصل بين السكني والتجاري» إلى رؤية مواطن 2030. كيف؟ لا بد أن لدى وزارة البلديات نظاماً كفيلاً بتدبير ذلك، ولكنه يحتاج فقط إلى تفعيل، ولكني اقترح أيضاً عليهم مسألة تبدو غير ذات علاقة، ولكنها تفضي إلى الهدف نفسه وهو «الحرب على التستر».
آخر مقالات الكاتب:
- ثورة… كالسورية في جبال اليمن
- لا تخافوا ترامب… ولكن استعدوا له
- لو تغيّر عون وابتعد الحوثي عن إيران
- رؤية مواطن 2030.. أخيراً المشاركة في القرار المحلي
- ما يستفاد من حديث الوزراء في «الثامنة»
- رؤية مواطن 2030.. الحق في الحصول على المعلومة
- رؤية مواطن 2030.. «أشجار» مزيد من الأشجار
- رؤية مواطن 2030 .. الفصل بين السكني والتجاري
- رؤية مواطن 2030 .. حدائق عامة «نتنفس» فيها
- رؤية مواطن 2030.. الحرب على التستر والمتسترين