شرق الخط السريع في محافظة جدة، غابة «أسمنتية» موحشة من العمائر الضخمة المتلاصقة، جمع سكانها بالكاد المال الكافي لشراء شقة هناك بعدما «التهبت» أسعار العقار خلال العقدين الأخيرين بـ»عروس البحر» غرب الخط السريع. كلها أحياء جديدة، ولكن من الواضح أنها بنيت على عجل، مع الحد الأدنى من التخطيط، ولكن برضا وتنازل الطرفين، البلدية والمواطن، ويمكن أن أضيف إليهما المطور العقاري، فغضّوا الطرف جميعاً عن جلّ ما يخص شروط البناء من مواقف سيارات وأرصفة وقواعد الفصل بين السكني والتجاري، ذلك لأنها كانت الحل السريع لضغط أزمة السكن. المهم سقف في الرؤوس ثم نفكر لاحقاً في تلك الآمال والأحلام.
في هذه العجلة بالطبع نسي الطرفان أو أهملا قصة «الحديقة المركزية»، التي درسها رئيس البلدية في مادة التخطيط العمراني عندما كان مبتعثاً في جامعة أميركية، وكان يحلو له ساعتها أن يراجع مادته المفضلة في الحديقة الهائلة التي تتوسط الجامعة، ولكن عندما تسلّم موقعه بإدارة التخطيط أو رئاسة البلدية الفرعية، تاهت عنه تلك الحديقة، التي يجب أن تتوسط الحي ليلعب بها الأبناء، ويتريّض الآباء، وتجتمع الأمهات تحت ظل شجرة يتبادلن آخر «الأسرار».
هذه الحديقة هي المطلب التاسع في سلسلة مقالات «رؤية مواطن 2030»، ليس بشرق الخط السريع، بل في كل المدن السعودية، فمن المفارقات المؤلمة أن الأحياء الراقية في مدننا تتوافر بها حدائق أكثر من أحياء ذوي الدخل المحدود، الذين هم أحوج للحدائق من المتنعمين بمنازل واسعة أنيقة محاطة بحدائق رحبة. لنأخذ مدينة لندن التي يعرفها كثير من السعوديين، خصوصاً ميسوري الحال، بل يعرفون حدائقها بمواقعها وأسمائها وجالوا وصالوا فيها، 47 في المئة منها «مساحات خضراء»، وثلثها حدائق خالصة مفتوحة لكل سكانها وزوارها أيضاً، هذا ثلث، والثلث كثير، لو طالبنا الدولة بالربع فقط لمدننا فسيعني ذلك 10 أضعاف ما حولنا اليوم من المساحات الخضراء الشحيحة.
إنها مهمة صعبة، بل حتى مستحيلة لو تركت لأمانات وبلديات المدن، فحدائق وسط المدن هي أراضٍ ثمينة يسيل لها اللعاب، ورغبات تطبيق المنح والثراء السريع، وهو الذي أهدر مساحة مطار جدة القديم منتصف الثمانينات، فحلم أهلها أن تكون لهم «حديقة مركزية» مثل ما أن لنيويورك «سنترال بارك»، فعمد أحد المستثمرين إلى بناء سوق تجارية بما حصل عليه أو اشتراه من أرض المطار، وسمّاه «سنترال بارك مول»، كأنه يذكّر المواطنين بحلمهم الذي تحول إلى كابوس، والحديقة المركزية التي أصبحت منحاً وأحياءً سكنية، وبالتالي تحتاج إلى قرار من أعلى «حازم»، مثل قرار أن يكون للوطن رؤية 2030. والدولة تستطيع والمواطن يستأهل، أن يضاف للرؤية هدف، بإلزام البلديات بألا تقل نسبة الحدائق في المدن عن الربع بحلول 2030، وسيكون مكملاً ومتسقاً مع هدف تحسين جودة الحياة، وسبباً آخر لفرض الرسوم على الأراضي البيضاء، وتطبيقه بحزم وشدة، حتى يأتي يوم تكون الأراضي حملاً ثقيلاً على صاحبها المحتكر، فتتحول إلى حدائق وعلى أطرافها مدارس رحبة.
ولا حاجة لذكر كيف ستغير الحدائق المزاج العام الوطني والرضا الشعبي والبيئة العامة المحيطة بالمواطن محدود الدخل، فيعوض ضيق البيت بسعة الحديقة، فتتسع معها النفوس والآمال.
آخر مقالات الكاتب:
- ثورة… كالسورية في جبال اليمن
- لا تخافوا ترامب… ولكن استعدوا له
- لو تغيّر عون وابتعد الحوثي عن إيران
- رؤية مواطن 2030.. أخيراً المشاركة في القرار المحلي
- ما يستفاد من حديث الوزراء في «الثامنة»
- رؤية مواطن 2030.. الحق في الحصول على المعلومة
- رؤية مواطن 2030.. «أشجار» مزيد من الأشجار
- رؤية مواطن 2030 .. الفصل بين السكني والتجاري
- رؤية مواطن 2030 .. حدائق عامة «نتنفس» فيها
- رؤية مواطن 2030.. الحرب على التستر والمتسترين