يدور هذه الأيام صراع مرير وطويل بين مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، ومرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب المثير للجدل، السجال بين المرشحين اخترق كل الحواجز، وعما قريب يفترض أن تطالعنا الأخبار بمن فاز بمقعد الرئاسة، ولكن هل هناك من اقتصاديات تحكم عملية التصويت في الانتخابات الرئاسية؟ وهل يمكن أن نصورها على أنها حالة سوق مؤقتة؟
السوق هي الترتيب المؤسسي الذي من خلاله يلتقي طرفا عملية التبادل. بالطبع عملية التبادل لا تتم إلا عندما يؤمن طرفا عملية التبادل بأنهما يحصلان على منفعة من عملية التبادل، فالمشتري لن يشتري السلعة إلا إذا كانت المنفعة التي يحصل عليها منها، أعلى أو على الأقل تساوي منفعة الريال الذي سيدفعه فيها، هل يمكن تطبيق فكرة السوق على عملية الانتخابات؟ الإجابة بالطبع نعم. في سوق الانتخابات لدينا طرفان، المرشحون، وحملة الأصوات الذين لهم حق التصويت. في عملية الانتخاب يتبادل الطرفان أي كل من المرشح وأصحاب الأصوات المنفعة، والعملية تتم على النحو التالي، صاحب الصوت لن يصوت على مرشح ما إلا إذا كان سيحصل على منفعة تتجاوز أو على الأقل تساوي قيمة ما يمثله الصوت بالنسبة له.
وفي هذا الإطار، فإن الناخب يتحول في يوم الانتخابات والإدلاء بصوته فقط إذا أدرك أن هناك فائدة أكبر من تكاليف القيام بذلك. وتشمل الفوائد المرجوة من التصويت إمكانية أن التصويت لشخص ما سوف يحدث فرقا في نتائج الانتخابات. بالطبع التكاليف المتصورة للتحول إلى التصويت لها علاقة مع الخدمات اللوجيستية التي توفرها الدولة مثل سهولة الوصول إلى صناديق الاقتراع، وأخذ إجازة من العمل والوقت الذي يستغرقه للبحث عن تفاصيل كل منصة، سياسة الحزب أو المرشحين وغيرها.
يمكن أن نتصور أن في سوق التصويت تجري عملية بيع وشراء الصوت، بائع الصوت هو من له حق التصويت، مشتري الصوت هو المرشح أو الحزب الذي سيحصل على الصوت، بالطبع عملية الشراء هنا ليست مقابل مال، وإنما مقابل برنامج أو سياسة سيطبقها الحزب أو المرشح، التي يؤيدها بائع الصوت. بالطبع هذه العملية مفيدة للطرفين صاحب الصوت ومشتري الصوت.
ولكن هل يجب أن يبيع المصوتون أصواتهم؟ من المفترض أن الدولة لا تحظر أي ناخب عن التصويت مباشرة للمرشحين حتى وإن كانوا سيطبقون سياسات غير سوية أو ضارة. وبما أن الدولة تسمح عموما لصاحب الصوت باستخدام صوته على النحو الذي يراه مناسبا، لا ينبغي أن يسمح له بأن يبيع صوته.
ويقول بعض الاقتصاديين إن سوق التصويت تمكن النتائج الانتخابية لتعكس شدة الميول السياسية للمواطنين. لنفترض أن 51 في المائة من الناخبين بالكاد يدعمون المرشح الأول “أ” على المرشح “ب” صاحب 49 في المائة من الأصوات فإذا كانت النسبة المتبقية 49 في المائة تفضل بقوة المرشح الثاني “ب” عن المرشح الأول “أ” فإن من شأن سوق التصويت أن يمكن أنصار “ب” من شراء الأصوات، ما يؤدي إلى انتخاب “ب” الذي قد يعد نتيجة معقولة وفقا لنتائج المفضلة في هذه الانتخابات.
ولكن هل يجوز بيع الأصوات وشراؤها؟ قد يكون بيع وشراء الأصوات من الأمور غير المسموح بها، لكن لو تصورنا جدلا أن شراء وبيع الأصوات مسموح به قانونا فإن ذلك من الممكن أن يقلب نتائج العملية الانتخابية. بالطبع سوف يختلف الإقبال على شراء وبيع الأصوات بين الناخبين حسب مستويات دخولهم، فمن المتوقع إقبال منخفضي الدخول على بيع أصواتهم بصورة أكبر من مرتفعي الدخول بشكل عام. لكن من المؤكد أن شراء الأصوات المباشر يمكن أن يعرقل بالتأكيد المساواة السياسية، وهذا هو السبب في أن كثيرا من منظري الديمقراطية يميلون إلى إقرار اللوائح التي تحد هذه الأشكال من الإنفاق.
التأثير الذي يحدثه المشارك في العملية الانتخابية يعتمد على عدد الناخبين، بالطبع كلما ارتفع عدد الناخبين إلى عشرات أو مئات الملايين، فإن صوت شخص واحد يكاد لا يملك أي فرصة لحسم النتيجة. صوت واحد فقط يمكن أن يؤثر في الانتخابات عندما يكون هناك عدد قليل من الناخبين، الذين لديهم فرصة في أن يحدثوا تأثيرا في الانتخابات على مستوى الأمة. لهذا السبب، ربما يكون من الرشد ألا يأتي الناخب العقلاني إلى صناديق الاقتراع في يوم الانتخابات إذا كان عدد الناخبين هائلا.
من جانب آخر قد يتعدد عدد المرشحين وتتنوع خلفياتهم وأحزابهم التي ينتمون إليها، وفي هذه الحالة فإن تكلفة أن يعلم الناخب نفسه حول كل من هؤلاء المرشحين والأحزاب السياسية يمكن أن تكون عالية جدا. وهو ما ينطوي على إنفاق كثير من الوقت الذي ربما يقضيه الناخب في متابعة السجالات بين المرشحين، والاستماع إلى الخطب في حملاتهم ومقارنة منصاتهم السياسية.
في مواجهة هذه التكاليف، قد يقرر بعض الناخبين البقاء بعيدا عن صناديق الاقتراع أو حتى عن العملية السياسية برمتها، وهي ظاهرة يسميها الاقتصاديون بـ”الجهل العقلاني”. ويحدث هذا السلوك عندما تكون تكلفة تثقيف الناخب لنفسه تتجاوز الفوائد المحتملة من وراء ذلك. والاستنتاج بأن الناخب العقلاني لا ينبغي أن يقودنا إلى ما يسميه الاقتصاديون “معضلة الناخب”. حيث يكسب الناخب الفرد أكثر من خلال عدم التصويت، ولكن إذا رفض الجميع التصويت ستكون كارثة للمجتمع.
غير أن ذلك يجب ألا يخفي حقيقة أن كثيرا من الناس يكافح للحصول على حق التصويت، حيث يقاتل الناخبون من الرجال والنساء حتى يتمكنوا من الحصول على الحق في التصويت، فهل هذا سلوك غير رشيد؟ بالطبع لا، فالعوائد التي يتوقع هؤلاء الحصول عليها من المشاركة في العملية الانتخابية تتجاوز التكلفة أو المشقة التي يتحملونها في سبيل الإدلاء بأصواتهم.
فما الذي يدفع الناخبين للقيام بذلك؟ على سبيل المثال أفرض أن الناخب يعيش في الدائرة التي لا بد أن يفوز فيها حزب “س” ولكنه يريد لحزب “ص” أن يفوز. هو في هذه الحالة يتكبد تكلفة التصويت ولكن دون أي توقعات لدفع تكلفة مقابل ذلك. لماذا قد يفعل ذلك؟ الناخب في هذه الحالة يملك نظرة إيجابية حول مساهمته في العملية الانتخابية باعتقاده أنه يمكن أن يحدث فرقا من خلال عملية المشاركة في التصويت حيث إن مساهمته وغيرته تنعكس إيجابا على الأصوات التي يمكن أن يحصل عليها حزب “ص”.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟