بالطبع لم يكن طرح هذا السؤال ضرورياً لو كانت الاجابة بنعم. فالحل ليس في حل مجلس الامة، ولا حتى في استقالة الحكومة وتشكيل حكومة «رجال الدولة» التي تمناها البعض قبل ان يكتشف شعار الحكومة المنتخبة. لقد تم حل مجلس الامة، مرات ومرات، وتم في اكثر من مرة التعطيل «العلني» لبعض مواد الدستور. ومع هذا سارت وتسير الاوضاع من سيّئ الى أسوأ.
باختصار ووضوح اكثر.. نحن لسنا بحاجة الى قرار سياسي لمواجهة واقعنا المر. فمهما كبر هذا القرار، ومهما علا شأن الجهة التي تتخذه، فسيبقى من دون شك يفتقد القدرة على التأثير الايجابي المطلوب في واقعنا الحالي. وربما يكون ضروريا تأكيد ما طرحناه سابقا، وهو انه «تم تدميرنا اجتماعيا ونفسيا». لهذا، فإن المطلوب «ثورة» اجتماعية، وليس قرارا، ولا حتى تغييرا سياسيا لمعالجة واقعنا المر. اللهم إلا اذا اخترنا ان نواصل اعتمادنا على ارتفاع اسعار النفط ووضع مستقبلنا بيد السوق العالمي للطاقة.
الاصلاح السياسي والاقتصادي الذي يطالب به البعض، حقا او باطلا، قد يعالج الظواهر، ويخفف الاعراض.. ولكنه لن يعالج العلة الاساسية او يستأصل الداء الحقيقي. تغيير الحكومة وحل مجلس الامة وحتى محاربة الفساد ووقف الهدر.. هذه كلها «حبات أسبرين».. قد تنجح في تخفيف الصداع، ولكنها لن توفِّر حلا نهائيا للمرض.
ما بعد المقدمة
هذه المقدمة هي تأكيد لواقع الحال وتلخيص سريع ومختصر لتشخيصنا له في المقالات السابقة. الحل ليس في حل مجلس الامة؛ فمجلس الامة «بوضعه الحالي» هو نتيجة وثمرة ظروف، خلقها البعض من المعادين للنظام الديموقراطي، وغذى بعضها الآخر موروثنا التاريخي وواقعنا الاجتماعي. لهذا ستأتي نتيجة كل انتخابات بذات العقلية وذات النهج المخالف لمتطلبات التنمية، والمتعارض ايضا ومبادئ وأسس النظام الديموقراطي. لهذا، فان كان هناك حل او تغيير يجب ان يكون في تغيير الناخبين، او بالاحرى والممكن تغيير عقليتهم وتثوير نمط تفكيرهم، او على الاقل توفير شروط افضل لهذه «العقلية» من اجل ان تقترب بقدر المستطاع من ممارسة العملية الديموقراطية الصحيحة. ومخطئ كثيرا من يعتقد ان صلاح السلطة سيعني صلاح الحال. فالعلة في المجتمع بشكل عام، وليست في السلطة وحدها. ولعل مرسوم الصوت الواحد أبلغ دليل على ذلك، إذ تصدّت له المجاميع المستفيدة من التحالفات القبلية والطائفية «الجمعية»، لأنه يكسر احتكارها لاصوات الطائفة او القبيلة.
مجلس الامة في واقع الامر لم يعترض على الخطوات الاصلاحية الاخيرة للحكومة. بل الناس هي التي عبّرت بغضب ورفض قاطع لاي اصلاحات او تقشّف. ولم يكن امام اعضاء مجلس الامة الا ان يرضخوا لاصوات ناخبيهم.
النيل من النظام الديموقراطي
منذ بداية الاخذ بالنظام الديموقراطي واطراف في السلطة سعت ولا تزال تسعى لتشويه هذا النظام ولضمان عزوف الناس عنه او استهتارهم به. وقد مارست هذه الاطراف شتى الاعمال المشروعة بشكل عابر، وغير المشروعة بشراهة، للنيل من النظام الديموقراطي وعرقلة التنمية السياسية المصاحبة له. ولم تكن هذه الاطراف لتنجح وحدها في تحقيق اهدافها لو لم يكن واقعنا الاجتماعي مهيأ، بل ومساعداً على ذلك. لهذا، فالسلطة او تلك الاطراف ليست المسؤولة وحدها عن واقعنا السياسي المتردي والمعادي للنظام الديموقراطي، بل المسؤول اغلبيتنا، وفي مقدمتنا المجاميع السياسية التي تفتقد الروح الديموقراطية والايمان الفعلي بمبادئ النظام الديموقراطي في الحرية والعدالة والمساواة. والتي حرص المؤسسون الاوائل على حمايتها وصيانتها في المادة 175 من الدستور.
لدينا ناخبون أصبحوا يؤمنون بحقهم الانتخابي. هذه حقيقة، ولكن الأكثر صحة انه ليس لدينا ناخبون يؤمنون بالعدالة والحرية والمساواة، اي ناخبون ديموقراطيون. بالأمس كان الناخب ينتخب جاسر الجاسر أولاً والدكتور الخطيب ثانياً، الأول للمصلحة الشخصية، والثاني للشأن العام. حاليا وبعد نصف قرن من الممارسة «الديموقراطية»، بالصوت الواحد او بأربعة، اصبح الناخب ينتخب من يعمل لمصلحة القبيلة او الطائفة او العائلة او على الاقل من يحقق مصلحته الشخصية المباشرة فقط.
تغيير وجوه لا توجُّهات
قد يؤدي حل مجلس الامة واعادة الانتخاب الى تغيير بعض الوجوه في المجلس. ولكن لن يؤدي على الاطلاق الى تغيير التوجهات او الالتزامات التي يتعهد بها المرشحون لناخبيهم. بالعربي، الناخب الذي بيّنا انه قد تم «تدميره اجتماعيا ونفسيا» بفضل الطفرة النفطية او الانفاق الريعي للدولة ـــ بشكل أدق ـــ لن يكون «متعاونا» في تحقيق الاصلاحات الضرورية التي تتطلب بالتأكيد تقليص او وقف هذا الإنفاق. وردود فعل المواطنين والمرشحين في الايام الماضية على رفع سعر البنزين مثال واضح على هذا التعلق المرضي بالانفاق الريعي لدى المواطنين.
مع هذا، فان من الممكن التأثير ايجابيا ـــ او في الواقع سلبيا ايضا ـــ في انتخابات مجلس الامة من خلال قانون الانتخاب وتوزيع الدوائر. كما حدث عند اقرار قانون الصوت الواحد، الذي كان من الممكن ان تكون له ايجابيات اكبر، لولا إصرار المجاميع السياسية التي بنت امجادها على الرعاية القبلية والطائفية على رفضه، وبالتالي مقاطعة الانتخابات.
لا شك في ان الانتخابات العامة تكون افضل كلما كانت «عامة». بمعنى ان يكون للمواطن حظ أكبر في انتخاب القدر الأكبر ممن يمثل الامة، ولكن هذه «العمومية»، او بالاحرى الوطنية في هذه الحالة لها شروطها وضوابطها. ولعلها أولاً وأخيرا وجود حس وطني وانتماء عام لدى الناخب.
أسرى الانتماءات
غني عن القول هنا انه ليس لدينا ــ مع الاسف ــ هذا الحس الوطني، ولا حتى الانتماء العام المطلوب. فاغلبية ناخبينا هنا اسرى انتمائهم الطائفي والقبلي، وحتى العائلي. لهذا، فان عمومية الانتخاب هنا تزيد من سطوة هذا الانتماء في الوقت الذي تقلل من فرص الانتماء الوطني والالتزام السياسي. لهذا، فإن الناخب في الصوت الواحد مضطر الى النظر بصورة فردية، وليس «جمعية» الى مسألة التمييز او الاختيار بين المرشحين. اي انه من بين الاربعة او الخمسة ممن ينتمون الى «جماعته» هو بحاجة الى ان يفرزهم فرديا ووفقا لما يرى انه مصلحته من اجل ان يختار واحدا منهم.. هنا التقييم والدوافع او الاسس فردية، بينما كلما توسع حق الاختيار طغت الذاتية والتعصب الجمعي في خيارات الناخب.
الصوت الواحد
في النهاية، الصوت الواحد يعزز الفردية والمصلحة الفئوية التي في النهاية تكون المصلحة العامة الخاصة بكل الكويتيين. الانتخابات النسبية او انتخابات القوائم التي يدعو إليها البعض تغذي الانتماءات الاجتماعية، وتعزز ارتباط الفرد بالقبيلة او الطائفة او العائلة، ما يجعل المصلحة العامة غائبة، وليس لها حضور حقيقي لا في الانتخابات ولا في مجلس الأمة في نهاية الأمر.
ليس هناك عيب على الإطلاق في الصوت الواحد. فهذا هو اساس النظام الديموقراطي وبداياته. الدول المتقدمة، ذات الانتماءات السياسية والطبقية والمهنية العريقة، ربما تشكل انتخابات القوائم خيارا افضل لها. لكن عندنا المطلوب تطوير الوعي الفردي وتعزيز الخصوصية الفردية التي غيبتها الانتماءات الجمعية، وحجرت عليها التقاليد القديمة.
لهذا، فان المطلوب تعزيز الانتخاب على الصوت الواحد، وذلك بتبني ما طرحه المرحوم احمد بشارة من تحويل الكويت الى خمسين دائرة بصوت واحد لكل ناخب. هنا، وكما بيّن الدكتور احمد الخطيب في مقابلته الاخيرة مع اتحاد الطلبة تتعزز العلاقة بين النائب والناخب وتصبح الفرصة كبيرة من اجل المتابعة والمحاسبة السياسية.
موقف «المنبر الديموقراطي»
وهنا يبدو صعبا، بل مستحيلا تفهّم موقف «المنبر الديموقراطي» الحالي. فأنا أتفهم وأكاد أتوافق مع مقاطعة الانتخابات، ولكن ما لا يمكن استيعابه من «المنبر» هو حرصه على انتخابات القوائم والفرز النسبي..!! لن أخوض كثيرا هنا، ولكن أطرح سؤالا بسيطا وواضحا.. منذ ان تم التلاعب بالجداول والمناطق والناخبين.. منذ ذلك الوقت وحتى الآن: متى رشح «المنبر» اثنين في دائرة واحدة؟!!!! او مع من تحالف او شكل «المنبر» قائمة انتخابية واحدة..؟!! ومتى رشح «المنبر» عضوا له في ما يسمى المناطق الخارجية..؟!!
ظروف «الحل»!
كل انتخابات ولها طرحها وشعاراتها وأجندتها الخاصة. والانتخابات الحالية تستمد كل هذا من مرسوم حل مجلس الامة. فالمرسوم ارجع الحل الى تعقّد وخطورة الظروف الاقليمية. لهذا، فان المتوقع ان تكون هذه الظروف، التي اشار اليها مرسوم الحل، هي المحرك والمحفز والمهيمن ايضا على هذه الانتخابات. والواقع ان هذا لم يعد تخمينا او توقّعا، بل بدا جليا من خلال طرح بعض مرشحي ونواب المعارضة الذين تخلوا عن المقاطعة. فهؤلاء النواب، ممثلين بإمام المعارضة النائب السابق وليد الطبطبائي، همهم الاساسي ــ على ما يبدو ـــ هو «الخطر الفارسي» وانعكاسات الصراع السعودي ــــ الايراني على الكويت.
طبعا النائب الطبطبائي واشباهه ليسوا بحاجة الى الاشارة التي وردت في مرسوم الحل من اجل توجيه الانتباه الى الظروف الاقليمية، وخطرها على الكويت. إذ انه في واقع الامر يمكن الإقرار بتحفظ بسيط انهم هم من أشعلوا التوتر، وانهم هم من اختلقوا الصراع وأججوه.
صاحب السمو الأمير أعلنها واضحة وصريحة، وهي ان جميع قادة المنطقة، بمن فيهم القادة الايرانيون، معنيون بسلامة وأمن دول المنطقة. وانه ليس هناك دواع للتوتر والتحفز. لكن بالطبع، الطبطبائي وأشباهه لديهم قناعة تاريخية وأزلية برفض الآخر. ومحاربة من يختلف عنهم في العقيدة او حتى لا يشاركهم الرأي. لو كانت ايران حمامة سلام لشواها الطبطبائي. فهي تمثّل الآخر، المرفوض او «الرافضي»، لا فرق. فهي في النهاية تختلف وأشباه الطبطبائي، إمام معارضتنا «الدستورية» عدو التعددية والاختلاف. ليس بيننا وبين الشعب السوري مشكلة. بل ليس بيننا وبين النظام السوري لا حدود ولا مشكلة او خلاف.. ومع هذا أرسل اشباه الامام ثلاثة عشر ألف مجاهد لقتال نظام الاسد. والموقف ذاته حاليا مع اليمن، وسيكون في الغد…. وربما بقية كل من لا يتفق وعقيدة الفئة الناجية.