هنا يتداخل مطلبان في واحد، أطالب بمزيد من الأشجار في مدننا، والحفاظ على ما هو قائم منها ورعايته والاهتمام به، بل حتى إصدار تشريع يصعّب قطعها إلا بالعودة إلى أهل الحي.
فقطع الأشجار من أسهل الإجراءات والأفعال التي يبدأ بها مهندسو البلدية والمرور وهم يعيدون تخطيط الشوارع، وما أكثر ما يعيدون هدم وتخطيط وإعادة رسم وتغيير مسارات لشوارع استقرت أزماناً! كأنها هوايتهم المفضلة عندما يريدون أن يظهروا بمظهر المشغول والمطور للمدن، وكأن من سبقهم أخطأ في رسم هذا الرصيف، وغرس تلك الأشجار!
في شمال جدة شارع أنيق، كان كذلك، اسمه شارع حمد الجاسر، المؤرخ واللغوي الراحل، يمتد لكيلومتر أو نحو ذلك وسط حي الروضة، والذي كان هو الآخر حياً أنيقاً. وسط الجزيرة الفاصلة بين المسارين غرست أشجار ذات فروع وأوراق خضراء كثيفة، ولو غرس مثلها على جانبي الشارع لأصبح أجمل شارع في جدة، ولكن زحفت المتاجر على جانبيه، وعُدل نظام البناء، فازدادت العمائر دوراً أو أكثر، فازدحم الحي واختنق الشارع، ولم يتفتق ذهن مخططي الأمانة عن حلول تعالج فوضى المواقف السيارات العشوائية، ولا وقف رخص المتاجر والمطاعم والمقاهي، لتخفيف الزحام، إنما قطع تلك الأشجار الجميلة النادرة في صحراء أحيائنا المكتظة، فجأة، ومن دون مشاورة أحد، ولا حتى باستئذان مجلس بلدي منزوع الصلاحيات، لا يملك حق منعهم لو أراد ذلك، فقاموا بمذبحة مروعة في حق تلك الأشجار المسكينة!
اليوم ينتصب مكانها فاصل أسمنتي قبيح مرتفع لنحو المتر، اختفت الأشجار وخضرتها وظلها، وبقي الزحام والمواقف والمتاجر والمباني العشوائية!
نحن المواطنين أيضاً نقص الأشجار لأتفه الأسباب، أغربها أنها تسهل السطو على المنازل، وأدناها أن أوراقها الجافة تملأ حوش البيت، بالتالي نحتاج جميعاً إلى ثقافة تشجع زرع الأشجار والحفاظ عليها، ونظام يجرّم الاعتداء عليها، واعتبارها ملكية عامة.
لدينا سببان للمطالبة بالمزيد من الأشجار، غير أنها جزء أساس من «جودة الحياة» التي نتوق لها، أولهما الطقس الحار، الذي يحتاج إلى أشجار تخفف من غلوائه، ليوفر الظل، ولعلها أيضاً تبعث لنا نسمات حانية. لا زلت أتذكر رائحة أشجار الفاغية (الحناء) على جنبات طريق قباء، إذ كنت أسير إلى المسجد مع والدي – رحمه الله – مشياً على الأقدام، إنه شعور لذيذ كفيل بتعديل مزاج أي مواطن.
السبب الثاني، أن لدينا كميات وفيرة من المياه المستخدمة، التي تُمكن إعادة تدويرها وتكريرها لتصلح مياه ري لأشجار زينة غير مثمرة، يذهب معظمها هدراً في البحر لتلوثه.
لو استمعنا لمسؤولي البلدية لخرجوا علينا بألف سبب وسبب لتفنيد اقتراح كهذا، فالأرصفة التي ستزرع بها الأشجار غير موجودة، إذ احتلتها السيارات، ومياه الري غير متوافرة، إذ تحتاج إلى شبكة منفصلة تحمل المياه المكررة، وهذا وذاك يحتاج إلى مخصصات مالية غير متوافرة، لذلك قلت في أول مقالة إن تحقيق هذه المطالب يحتاج إلى رؤية شاملة متكاملة، بعلاقة سببية، فالتشجير يحتاج إلى منظومة أرصفة وشوارع مثالية، وذاك له علاقة بكود البناء ومواقف السيارات، وقبلهم جميعاً تفعيل ثقافة المشاركة والمواطنة، وكل ذلك سبق الحديث فيه في سلسلة مقالاتي هذه المعنونة بـ«رؤية مواطن 2030».
آخر مقالات الكاتب:
- ثورة… كالسورية في جبال اليمن
- لا تخافوا ترامب… ولكن استعدوا له
- لو تغيّر عون وابتعد الحوثي عن إيران
- رؤية مواطن 2030.. أخيراً المشاركة في القرار المحلي
- ما يستفاد من حديث الوزراء في «الثامنة»
- رؤية مواطن 2030.. الحق في الحصول على المعلومة
- رؤية مواطن 2030.. «أشجار» مزيد من الأشجار
- رؤية مواطن 2030 .. الفصل بين السكني والتجاري
- رؤية مواطن 2030 .. حدائق عامة «نتنفس» فيها
- رؤية مواطن 2030.. الحرب على التستر والمتسترين