باعتباره واحدًا من أصعب الأسئلة التي تتطلب إجابات صريحة وواقعية، فإن طرح سؤال من قبيل «لماذا لا تتوقف خطابات الفتنة والتكفير والتشدد في منابر وإعلام ومنصات متعددة على طول وعرض الوطن العربي والإسلامي؟»، يجعل المسئولين عن ذلكما القطاعين يبحثون -دائمًا- عن إجابات إنشائية عاطفية لا تخلو من الخيال.
ولعل في مناسبات واجتماعات ولقاءات كثيرة على مدى سنوات عملي في الصحافة، أجريت لقاءات وحوارات مع عدد من المسئولين في قطاع الشئون الإسلامية والإعلام في الوطن العربي، وحينما أسأل عن سر استمرار الخطاب الفتنوي المدمر رغم كل التوصيات المنمقة والرنانة التي تتحدث عن أبناء الدين الوحد، الأسرة الواحدة، البيت الواحد، والبيانات التي تصدر من منتديات ومؤتمرات تبحث موضوع نشر ثقافة احترام الآخر والوسطية والاعتدال، لا نجد غير كلام مكذوب لا مفر منه، وواقع يكذب تلك التصريحات… لا مفر منه أيضًا.
من الواضح أن هناك حالة من الانتصار لخطاب الفتنة على خطاب الاعتدال في المجتمع الإسلامي، ولا أدل على ذلك من استمرار خطابات التكفير والتشدد واستمرار طباعة الكتب والكتيبات والمنتجات الصوتية والمرئية بل وحتى المناهج الدراسية، التي كأنها فرض سماوي لا يمكن تغييره أو تعديله أو تحسينه، وفيها من المخاطر على نسيج المجتمعات الشيء الكثير الذي لم يعد خافيًا أو مستغربًا، لك أن تنظر في المشهد في السنوات القليلة الماضية لترى وتعرف؛ من هم الذين ينتمون للهمجية الداعشية؟ وكيف تربوا؟ وماذا تشربوا؟ وهذا لا يقتصر على فئة دون فئة أو مذهب دون مذهب، فالدمار الإرهابي مشهد دموي عاصف يستقطب إليه من لا دين له ولا قيم له ولا مبدأ له ينتهجه في حياته، ومن ينتمون إلى هذا الضياع في مجتمعاتنا العربية والإسلامية كثيرون… حتى أننا وجدنا منهم نخبًا من المتعلمين… من مهندسين وأطباء ومثقفين! أليس غريبًا أن يتمادى ذلك الغول وحشيةً فيما لاتزال مؤتمرات وملتقيات واجتماعات الاعتدال ورفض التطرف والتشدد والتكفير ودعوات حماية الإسلام من مشوهات الإرهابيين مستمرة، وتجد ذلك المسئول المعني عن قطاع الشئون الإسلامية أو الإعلام في بلد عربي ما فاغرًا فاه وعيناه تدوران في رأسه حين تسأله «في منابر المساجد عندكم، وفي أجهزة إعلام تقليدية وإلكترونية، لاتزال همجية الجاهلية من تشدد وتكفير وتطرف تملأ الكثير من المواد المتلفزة والمسموعة والمقروءة، فأين أنتم عنها؟» والحقيقة، مهما كانت إجابة ذلك المسئول، فإن المسألة ليست مقصورة على توصيات أو بيانات ختامية في صالات الاجتماعات والمؤتمرات، بل هي تعتمد بالدرجة الأولى على صدق هذه الدولة أو تلك في مكافحة ولجم خطاب الظلام والذي في الغالب، ينطلق من ألسن أناس يعتقدون أنهم أفضل وأعلى خلق الله مقامًا، وأن في مقدورهم إدخال الناس إلى الجنة والنار، حتى لم نعد نستغرب أن يقول فلان عن نفسه أنه الموحد العابد الزاهد السائر على الصراط المستقيم، وأن غيره من المارقين المشركين الذين -لا ريب- في الدرك الأسفل من النار.
في شهر أغسطس/ آب 2016، تابعت باهتمام بالغ فعاليات الملتقى الأول للشباب الإسلامي والمسيحي، والذي استضافته القاهرة، بمشاركة فئات شبابية من جمهورية مصر العربية وعدد من الدول العربية والإسلامية والأوروبية، وكان هدفه بالدرجة الأولى وضع تصور واقعي لتحصين الشباب من الانجراف إلى المد الإرهابي الذي تمثله داعش والتنظيمات الإرهابية مهما كان منشؤها وأساسها العقائدي، والجميل في ذلك الملتقى، أن هناك حقيقة متفقا عليها، وهي أن تنظيم داعش والجماعات الإرهابية تسعى إلى اشعال صدام بين أتباع الأديان السماوية، والعمل على إثارة الأحقاد والصدامات بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، بل والتحذير من التفرقة والخلاف المذهبي بين أبناء المذاهب الإسلامية من خلال النيران التي تشعلها التيارات الإرهابية والتكفيرية وأصحاب الهوس المتطرف بين أبناء المجتمع الواحد.
ولعل من أهم الأطروحات التي شهدها الملتقى، تلك المواجهة الصريحة والجريئة في الاعتراف بأن غالبية الدول العربية والإسلامية تغذي خطاب التطرف والتشدد ثم تدّعي العمل على مواجهة الفتنة، وتزيح خطاب الاعتدال والوسطية وبناء العدالة الاجتماعية. وبالفعل، أليس مستغربًا أن تجد في دولنا الخليجية والعربية والإسلامية، والأمة تمر بأشد مراحلها صعوبةً وتعقيدًا، ذلك الخطاب المجنون منتشرًا في المساجد والجوامع والفضائيات وحتى في المدارس والجامعات والمعسكرات الشبابية؟ ترى، هل يخدع المسئولون أنفسهم أم يخدعون الأوطان؟.
الخلاصة التي تبدو جوهرية، هي أن التشدد والتطرف والطائفية ورفض الآخر، هي محركات للفتنة لا تنتشر ولا تنمو إلا في رحاب دول وحكومات تريد لها أن تنمو وتنتشر، ولن تجد في أي دولة في العالم صورًا من ذلك الغول الفتاك، طالما هي ترديه قتيلًا وتسحقه حينما يفكر في الفتك بسلامة واستقرار وأمن سلمها الاجتماعي ونسيجها الوطني.