تمخّض الجبل فولد لتراً.. هذا ربما أفضل وصف لحل السلطتين لما يسمى أزمة أسعار البنزين. شيء مضحك، وعادة، البلوى مما يضحك. نحن في دولة كانت في يوم من الايام اكبر مُصدّر للنفط في العالم. وفي الواقع والى حد ما لا تزال. ونحن في دولة كانت الاولى في اعلى مستوى لدخل الفرد في العالم.. وايضا ربما لا تزال.. ومع هذا فالبنزين.. بالتموين.. بالبطاقة..!!
القضية الأساسية
أعتقد ان اعضاء مجلس الامة معذورون عندما يحاولون استرضاء المواطن، فهم على ابواب انتخابات جديدة. لكن لا أجد عذرا على الاطلاق للحكومة. فالقضية الاساسية ليست في سعر البنزين ولكن في الدعوم التي تستهلك قدرا كبيرا من الميزانية، والتي تشجع على الكثير من امراض شراهة الاستهلاك المتفشية في المجتمع الكويتي. كل شيء بفضل الدخل النفطي مدعوم هنا، لكن اليوم لم يعد لدينا دخل نفطي.. او انه لم يعد يغطي تكاليف الدعم الذي ألزمت الدولة نفسها به.
يجب ان يعي المواطن ان لا شيء تغيّر.. فالدولة هي الدولة، والسلطة التي كانت تحكم بالأمس هي التي لا تزال تحكم اليوم. تجار الامس هم نفس تجار اليوم. بالاسم والعائلة.. لم يتغيّر شيء. ولم يتحصل على السلطة او الثروة طارئ او دخيل حتى يصر البعض على ترديد ان الدولة تسرق المواطن. بالامس كانت الدولة تغدق على المواطن وتوفر له في الغالب ما يحتاج، وفي الأغلب ما لا يحتاج. هذه حقيقة عاشها الكويتيون جميعا. ويعلم بها كل من يتذكر سنوات الرفاه والتدليل في الخمسينات والستينات. وربما هنا بدأت او انخلقت المشكلة. فالقوى المهيمنة على السلطة والثروة في ذلك الوقت حرصت بشكل متعمد على توزيع الثروة المتحصلة من الطفرة النفطية على جميع المواطنين لهذا اختلقت وسائل وطرقا عديدة لانفاق هذه الثروة.
جيل الطفرة النفطية
أول مرة سافرت فيها في حياتي كانت الى القاهرة سنة 1958.. وكانت على نفقة الدولة، ليس لادعاء للدراسة او المرض كما يجري هذه الايام. وليس في بعثة او سفرة رسمية كما يتم التزييف هذه الايام. ولكن للمتعة والسياحة وعلى عينك يا تاجر وبعلم الله وخلقه. فقد كانت الدولة في ذلك الوقت تمنح موظفيها اجازة مقرونة بتذاكر سفر للموظف وعائلته للترويح عنهم او تجنيبهم حر الصيف. عائلتنا اختارت القاهرة فكان لنا ذلك.
جيلنا.. جيل الطفرة النفطية كان يحظى برعاية خاصة في تلك الايام. كانت الحكومة تُلبسنا، وأذكر اول مرة وزعوا علينا ملابس، كانت «دشاديش» شتوية مقلمة. وكانت تُغذينا بشوربة عدس لضمان البروتينات وتفاح وبرتقال لمدنا بالفيتامينات. وكانت تُنومنا او تسكننا، فالسكن «الداخلي» كما كان يسمى في ايام الثانوية كان اجباريا. غصب عليك تسكن وتاكل طول الاسبوع على حساب دولة الكويت التي يتهمها البعض هذه الايام بـ «مص دماء ذوي الدخل المحدود». كذلك كان تطبيبنا، فالكشف الدوري والتطعيم والعلاج كان اجباريا ايضا.
أتذكر ايضا انه في سنة 1957 دخل على صفنا احد الموظفين، واعلن ان الحكومة، او بالاحرى في ذلك الوقت دائرة المعارف، سوف تدفع مبلغا شهريا لكل طالب محتاج. وسأل ان كان أيٌّ منا «ذا دخل محدود» أو فقيراً. الصف في ذلك الوقت ـــ ايام العز ـــ كان محدود العدد.. اعتقد كنا 23 او 24 تلميذاً فقط.. لكن لم يرفع احد يده. الموظف الذي اصيب بخيبة امل، الظاهر حدث له ذلك من كل فصول المدرسة، قال: شاوروا اهلكم وغدا خبروا استاذكم اذا كنتم محتاجين.. على علمي ايضا لم يتقدم احد. لو ان هذا جرى اليوم لاشتغل التزوير والمزورون من اجل التحصل المشروع وغير المشروع على هذه المنحة.
ما الذي تغيّر؟!
لم يتغير شيء.. السلطة هي السلطة، والمتنفّذون بالامس هم المتنفّذون اليوم. ما تغيّر وما تبدّل بالفعل هو الناس وأسعار النفط. زادت الخلق وقل الدخل تغيرت النفوس والطبائع وتغيرت الاحتياجات وانماط الاستهلاك. لهذا لم تعد موارد النفط كافية، لا الى تلبية الرغبات المتزايدة للمواطنين ولا حتى في الاحتفاظ بالاوضاع على ما هي عليه. لهذا كان لا بد ان تقبض الدولة يدها، وكان لا بد للناس ان تعترض. مجبر أخوك لا بطل، وما باليد حيلة في الوقت الحالي سوى تقليل الانفاق وخفض المصروفات.
نعود الى الآن، الى الفأر او الليتر الذي تمخضت عنه مشاورات مجلس الامة والحكومة لامتصاص غضب المواطنين. لن تغني ولن تسمن من جوع البطاقة التموينية للبنزين، حتى لو صارت ببلاش. طالما ان الحكومة رفعت سعر البنزين فإن المتضرر من شركات ومقيمين، وهم العاملون والمنتجون الوحيدون لكل السلع والخدمات، وليس المواطن الكويتي الذي خصصت له الحكومة البطاقة التموينية. هؤلاء سيلجأون الى رفع اسعار بضائعهم وزيادة تكلفة خدماتهم، بما فيها اجور وراتب الوافدين التي سترتفع حتما بارتفاع اسعار البنزين. اي ان المواطن سيصطلي بنار الارتفاع المتوقّع في اسعار السلع والخدمات، باعتبار انها كلها مرتبطة نقلا او توزيعا او توصيلا بالبنزين. وطبعا عندما يرتفع سعر السلعة فلسا فان التاجر يرفعه في النهاية الى فلسين.
كان الاجدر بالحكومة والمجلس ان يحفظا ماء وجههما ويمررا الزيادة في سعر البنزين. وكان الاجدر برئيس مجلس الوزراء ان يتمسك برؤيته الحازمة من «ان دولة الرفاه انتهت». فهذا على الاقل سيحفظ هيبة القرارات الحكومية وسيحفظ البلد من الافلاس ايضا، لان المطلوب ليس رفع سعر البنزين فقط. بل المطلوب تصحيح اسعار معظم السلع والخدمات، وهو ما هو بحاجة الى ارادة حازمة وحلول جذرية ناجعة لمعضلات المجتمع الريعي التي خلقها فينا «دلال» العقود الماضية.
حلول لمعضلتنا الأساسية
أنا ناديت وتحديت ما يسمى القوى السياسية التي حرصت وتحرص ليل نهار على معارضة الحكومة. تحديت ان يأتي اي منها بحلول عملية واضحة وقابلة للتطبيق لحل معضلتنا الاساسية والمتمثلة في اعتمادنا على استخراج النفط كمصدر وحيد للدخل. نريد خطوات عملية مباشرة وفعالة «من اي كان» تشرح كيف نتغلب على وضعنا المأساوي الحالي، وكيف يمكن للمواطن في النهاية ان يكون مستقلا عن الانفاق الحكومي الذي تعوّد عليه منذ الطفرة النفطية.
نطالب كل من يعترض على ما يعتقد انها اخطاء او خطايا الحكومة بأن يقدم الحلول البديلة او ان… يصمت. الذين يرفضون تصحيح الاسعار ورفع الدعوم عليهم ان يوفروا لنا بديلا او يدلونا على طريق عملي آخر لخفض الإرهاق على الميزانية العامة.
يردد المعترضون على خطوات التقشف بأنها تضر بالمواطن. وان المطلوب عدم المساس بدخل المواطن او بالرفاه الذي تعود عليه. هذا الانتصار للمواطن، هو في حقيقته انتصار كاذب. وحق يسعى البعض الى ان يحقق به باطلا. يذكرنا بما كتبته سابقا عن مقولة «نحن الشباب لنا الغد» فهي تعني حرمان الشباب من المشاركة اليوم. وان عليهم ان يشيخوا حتى تحق لهم المشاركة في القرار!
المواطن المعزول
ان من يقوم او «يمثل» دور المعني بشؤون المواطنين سواء كان من الموالين للحكومة او من المعارضين لها، او حتى الحكومة نفسها، انما يقوم بذلك بدافع «عزل» المواطن. والحيلولة بينه وبين صناعة القرار. هناك من يصر على ان يبقى المواطن سلبيا وغير معني بالشأن العام، بدعوى ان هناك من «المخلصين او الضمائر او الزعماء» او الحكومة الرشيدة من يتولى تمثيله ورعاية مصالحه. لهذا على المواطن من وجهة نظرهم ان يقنع بالفتات الذي يلقى اليه السياسي قبل الاقتصادي.
اعتقد ان علتنا الحقيقية، سياسيا، تكمن في ان المواطن هنا يفتقد غريزة او احساس الملكية والتملك الذي يدفع بصاحب الملكية او التملك الى الدفاع عنها والاستماتة في الحفاظ عليها من عبث العابثين. ليس هناك رابط حقيقي بين المواطن و«المال العام» الذي يطنطن الجميع بدعاوى الحفاظ عليه. لكن يعمل %99 من الكويتيين لتبديده والعبث فيه.
في الدول الاخرى وحتى عندنا ـــ في الزمن الحلو، اي قبل النفط ـــ كان المواطن يعمل وينتج ويدفع. وكان كل ما في خزينة الدولة هو نتيجة جهده وتعبه. لهذا لم يكن أحد يجرؤ على العبث العلني بالمال العام، كما يحدث الآن. وهذا في الواقع هو الحال في الدول الراقية والمجتمعات الحية التي تشكّل شعوبها مصدر الدخل، وليس آبار النفط. الناس تراقب وتتابع وتحرس الممتلكات العامة. هنا يتم التلذذ بالاعتداء على الممتلكات العامة، سواء كانت شاليهات او جواخير او قسائم او حتى الشوارع العامة. ويتم التفنن في سرقة الدولة او التحايل عليها من اجل التحصل على غير المشروع من المنح والمزايا. وطبعا لا شيء من هذا يحدث خفية او حتى على طريقة اذا بُليتم فاستتروا. فالكل يعلم مثلا ان فلانا لا يعمل ومع هذا يتلقى راتبه كاملا. والكل يعلم ان علانا ساكن مع اهله ومع هذا فهو يتحصل على بدل ايجار، والكل يعلم ان هذا ثمن منزله ومع هذا اخذ بيتا حكوميا، وان ذاك يؤجر منزله وهو ساكن على حساب الدولة. واستغلال القسائم على مختلف انواعها على غير وجه حق قائم امام الجميع. والكل يشارك في الاعتداء على المال العام او الاستحواذ على ما ليس له.
المواطن المسؤول
يجب ان يتحمل المواطن مسؤوليته الاقتصادية حتى يتحمل او يتحصل على حقوقه ومسؤوليته السياسية. ان من يحرص على اعفاء المواطن من المساهمة في الدخل او حتى في تحمل نصيبه في الحد من الاسراف هو وليس أحد غيره من يسعى الى حرمان المواطن من تولي الامور السياسية والاضطلاع بمسؤوليته في تقرير الشأن العام بوصفه الامة صاحبة السيادة ومصدر السلطات.
الخلاصة.. لست هنا لتبرير الواقع الحالي واخلاء مسؤولية البعض السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عطلت التنمية في هذه الجوانب، ولكني هنا لتقرير حقيقة، وهي ان انخفاض اسعار النفط هو ما يدفع الدولة الى التقتير والى ما يحلو للبعض ترديده الى «المساس بالمواطن». لدينا انحراف سياسي واقتصادي واجتماعي.. لدينا كل العيوب، الخطايا والاخطاء… ولكن المسؤول عن اضمحلال دولة الرفاه هو انخفاض اسعار النفط، وليس الحكومة او التجار، كما يحرص على ترويجه البعض.