إذا كانت أمراض مثل “السرطان، وجراحات الدماغ والقلب والرئة والأعصاب وغسل الكلى والأمراض المصاحبة للشيخوخة… كالزهايمر وسلس البول وضعف السمع… إلخ” كلها لا تدخل في وثيقة علاج “عافية” (والله لا يعافيكم أنتم يا ترزية القانون) التي يغطيها التأمين الصحي للمتقاعدين، فماذا بقي من أمراض الخير يمكن أن تصيب المتقاعد؟ هل سيعاني بثورَ حب الشباب، مثلاً، أو أي عوارض نفسية وجسدية تصاحب المراهقة؟!
يوم الجمعة، فضح الزميل حسن جوهر في مقاله بـ”الجريدة” قانون التأمين الصحي، كما يرى، عبر لغة الأرقام “حيث يصل عدد المؤمَّن عليهم إلى 107 آلاف مواطن من الفئات العمرية المختلفة، وقيمة التأمين على كل متقاعد تساوي 700 دينار، أي 75 مليون دينار سنوياً، ومقابل كل مؤمّن يبلغ رصيد التأمين على علاجه 17 ألف دينار، أي ما مجموعه نحو 2 مليار دينار” (من عندي أقول خوش تقشف وإصلاح مالي). ويضيف الزميل أن “العدد الإجمالي للمتقاعدين فوق عمر الستين يبلغ 28.500 مواطن لا غير، أي ما نسبته 26 في المئة فقط من المتقاعدين يفترض أنهم الأكثر عرضة للأمراض والحاجة إلى رعاية طبية حقيقية… ومعنى ذلك أن 75 في المئة من المبلغ الخيالي مرصود للتأمين”.
ثم جاء مانشيت “الجريدة” أمس ليفصل الأمراض التي لا تشملها وثيقة “عافية” (ومرة ثانية وثالثة ورابعة: الله لا يعافي أصحاب المصالح من وراء هذا القانون) وكُتِب تحت هذا المانشيت أن “قاعدة التأمين تقضي بأنه كلما ارتفع عدد المؤمن عليهم تدنت قيمة التأمين، وبالتالي كان من المفروض مع وصول أعداد المتقاعدين المشمولين بالتأمين إلى 117 ألفاً و615 متقاعداً أن تقل القيمة إلى 300 دينار بحد أقصى، بدلاً من 700 دينار”.
مَن وراء هذا القانون؟ ولأجل من تم سلقه؟ إما أن هذا القانون “فُصِّل” لمصالح البعض سواء كانوا في مجال التأمين أو الخدمات الصحية، أو أنه (بافتراض حسن النية) شُرِّع بعشوائية وارتجالية دون دراسات متأنية، وفي الحالتين النتيجة واحدة، وهي مزيد من النزف المالي من حساب الميزانية المثقوبة في وقت تروج السلطة لسياسة التقشف والإصلاح المالي مع تدهور سعر النفط!
رقم خيالي، كما يقول حسن جوهر، رقم يشابه ويقارب صفقات شراء الأسلحة الأخيرة لحروب الوهم، لماذا تلك اللامبالاة؟ ولماذا هذه الاستعراضات التشريعية الكارثية بوقت تشتكون فيه ضيقَ الحال وصعوبة استمرار الإنفاق على خدمات المواطن؟!
سؤال بسيط أتمنى أن يجيب عنه أصحاب الكراسي العالية: أين هم المستشارون الذين يفترض أنهم درسوا مسبقاً مثل تلك المشروعات؟ وكيف تعاقدتم معهم أو عينتموهم في وظائفهم؟ هل عُيِّنوا لجدارتهم أم إنهم من جماعة… أذنك… خشمك؟ هل يبدون آراءهم حسب دراسات ونهج علمي ووفق المصلحة العامة أم حسب ما تطلبون منهم، بطريقة “إنت عاوز إيه وأنا أعمله لك”؟ وبالتالي هم من فصيلة الحكماء التي كتب عنها بريخت مسرحية “توراندوت أو مؤتمر غاسلي العقول”، وكامو كان واحداً من هؤلاء الحكماء، يقول لرفاقه في المقهى “إني لا أبيع آراء كيفما اتفق… تلك الآراء التي تصلح لأي كان، أبيع آراء حسب الطلب”. مشكلتنا عويصة مع حكماء الديرة، ويبقى السؤال الممل مشروعاً: “وين رايحين”؟! أعرف أين أنتم “رايحين” فلن يقلقكم الغد، لكن ماذا عنا نحن الناس، علامة استفهام كبيرة تنتظرنا؟