كثيراً ما يتحدث البعض عن إسطبلات الخيل (الحوطة كما اصطلح على تسميتها شعبياً)، كونها مرتعاً للفساد وسوء الأخلاق والممارسات المشينة وقس على مثل تلك الأوصاف الكثير، منها ما هو صحيح ومنها ما هو باطل! لكن، من الممكن تقديم صورة أخرى لا يعرفها الكثير من الناس.
ربما تكون فكرة الموضوع غريبةً نوعاً ما، إلا أن بيئة «الحوطة» ومجتمعها وشبابها ونشاطها ليست في مجملها مرتعاً «مشيناً»، بل فيها الكثير الكثير مما يمكن أن نعتبره من أجمل وأروع الصور، وخصوصاً أننا على مشارف ذكرى عاشوراء الحسين (ع)، ومن ذكريات «الإسطبل» أيام الشباب، نعيش لحظات جميلة تزيح الطائفية والتشدد والتطرف، وتنحو نحو التسامح والمحبة والأخوة… كيف ذلك؟ ألم أقل لكم إن الموضوع فيه من الغربة بعض الشيء؟
في «الحوطة» ومنها، درسٌ جميلٌ للطائفيين وأهل الشقاق ودعوات التفتيت المذهبي والتشنيع على معتقدات الناس، ففي أغلب الإسطبلات، وهذا الكلام عايشته شخصياً منذ فترة الثمانينيات، هناك العديد من شباب البلد من مختلف مناطق البحرين ومن الطائفتين الكريمتين، وعادةً ما يكون «صبيان الحوطة» من عشاق الخيل ونواصيها وعروبتها وأصالتها، ولربما كان هذا هو السبب في أن يكون «صبيان الحوطة» من السنة والشيعة، نموذجاً جميلاً لا يضاهيه نموذج إبليس من قبيل أولئك الذين يهاجمون معتقدات غيرهم وشعائرهم ولاسيما في عاشوراء، ولا يتورعون عن تسمية المآتم الحسينية بـ «المآثم» و «منابع الشرك» و «منابر الفساد»، وكأن الله سبحانه وتعالى أطلع تلك الفئة على نوايا الناس وأفعالهم من جهة، ثم وكلهم ليتولوا محاسبة خلق الله على معتقداتهم… وعلى العموم، في كل «ديرة مقبرة»، وفي كل مجتمع، هناك الأنياب الطائفية البغيضة من كل الأديان والطوائف، وليس من دين أو مذهب واحد فحسب.
صبيان «الحوطة» من الإخوة السنة والشيعة، تجدهم في إسطبلاتهم المشتركة ولاسيما تلك الواقعة على شارع النخيل أو في منطقة سار والشاخورة وغيرها، والمذهل، أنك لا تجد بينهم أي صراع أو خلاف أو تناحر سياسي أو طائفي، حتى في حال النقاش في المواضيع الدينية والعقائدية والسياسية، فهم في الغالب يتلقون آراء بعضهم بعضاً باحترام، وبأسلوب لا يمكن أن تجده في مجالس الطائفيين من مشايخ أو نواب أو مسئولين، ولعلهم يتعلمون درساً من صفاء نفوس «لصبيان مال الحوطة».
تماماً، كما يشارك فنانون من مختلف الأديان والمذاهب في المرسم الحسيني سنوياً، فتجد الفنان السني يقدم إبداعاته إلى جنب الفنان الشيعي والمسيحي والبوذي والهندوسي، فإن العديد من الفرسان ومربي الخيل من الإخوة السنة، اعتادوا سنوياً على مشاركة خيولهم في مواكب العزاء القريبة من مناطق إسطبلاتهم، ويشارك من لديه ناقة بناقته في المشاهد التمثيلية الكربلائية أو المسرحيات، باعتبارها شكلاً فنياً متطوراً من الإحياء العاشورائي وفيه يبدع الممثلون في تقديم مشهد مؤثر في النفوس، لكنك لن تجد بينهم من يعتبر ذلك شركاً وإثماً، فالمجتمع البحريني بسنته وشيعته، أحيا مواسم عاشوراء منذ قديم الزمن. «لصبيان مال الحوطة»، يتمتعون بروحية بحرينية عالية النقاء والصفاء، وليست الحوطة أو «الإسطبل» أو مدرسة الفروسية هي مكان اجتماعهم الأول ولا دونه، فهم يجتمعون ويتزاورون طيلة العام، فتجد «التميمي» في ضيافة «مدن» وترى «سلطان» في ضيافة «المحاسنة» وترى «بودانة» في ضيافة «سيدشرف»، حتى لو كانت العواصف الطائفية حولهم تشتد وتعصف بالجميع… أتذكر في الثمانينيات، كان ابن عمي الفارس «صادق الدبيني» يدير إسطبل السيدجعفر السيدشرف البلادي، وكنا في ذلك الوقت نجتمع من بعض الأصدقاء «بروك… مبارك من السلمانية» و «فرووي… فرج من أم الحصم»، وغيرهما من الأصدقاء طيلة أيام عاشوراء الحسين (ع)، وليس علمنا فقط هو أخذ الخيول إلى مواكب العزاء، بل يحضر الجميع للاستماع إلى المحاضرات والمشاركة في مواكب العزاء. للعلم «لصبيان مال الحوطة» فيهم الطالب الجامعي وفيهم الطبيب وفيهم الباحث وفيهم الأستاذ الجامعي وفيهم المثقف وفيهم الإنسان العادي، لكن من دون شك، كل أولئك يأملون من أهل المنبر الديني عموماً، والمنبر الحسيني خصوصاً في هذا الموسم، ومن الشعراء والرواديد، أن يكون شعار «الحسين يجمعنا» يتبلور بشكل حقيقي في إحياء الذكرى تحت مظلة الدين والوطن والأخوة، ولترسيخ مبادئ نهضة الإمام الحسين (ع) في نفوس أبناء الأمة، ولسنا في حاجة إلى الخرافات والخزعبلات والخطاب الاستفزازي الطائفي الناري، ولسنا في حاجة لطرح المواضيع التي تثير البغضاء والتناحر، فالوطن في حاجة للجميع، أياً كان الخلاف السياسي وأياً كانت الأزمات… الإمام لم يخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، إنما خرج لطلب الإصلاح في أمة جده المصطفى محمد (ص).