حسن العيسى

نهاية مشاكس حر

مات ليلة الجمعة الماضية الكاتب الأميركي من أصل إنكليزي كريستوفر هتشنس، بعد صراع مرير مع سرطان الغدة، وكان هتشنس كاتباً “إشكالياً” بمعنى الكلمة، فلم ينسق لمذهب فكري محدد حتى يحمل وزره في ما بعد، فقد كان يعد من كُتاب اليسار التروتسكيين في شبابه، وذهب إلى كوبا في نهاية الستينيات بتأثير الحماس للثورة الكوبية، وعاد بتجربة سيئة عن الاستبداد، وكان أحد النجوم في أيام ثورة الشباب في ذلك العقد، وتم القبض عليه أكثر من مرة. إلا أنه كانت له مواقفه الراسخة ضد مؤسسة الحكم، وترك في ذكرياته بكتابه “هتج 22” لحظات عقلية ممتعة طاف فيها بطفولته وعلاقته مع والده الضابط الكبير بسلاح البحرية الإنكليزية، ثم إصرار والدته البولندية الأصل التي أرادت أن يكون لابنها الأكبر مكانه المميز بالأدب الإنكليزي في أعرق الجامعات الإنكليزية (كمبردج) وسطر في تلك الأيام بداية حبه وعلاقاته مع أصدقاء عمالقة في الأدب والنقد. وحسب مذكراته لم يكن يعرف أن والدته يهودية حتى انتحارها بسبب الاكتئاب وتجربة عشق فاشلة، ولابد أن مثل تلك الحكاية تركت آثارها الكبيرة في نفس الشاب الصغير.   المثير في كتابات هتشنس موقفه الرافض للأديان كلها بلا استثناء، وتعالت شرارة عدائه للدين ناراً ملتهبة بعد فتوى الخميني بهدر دم سلمان رشدي الذي كانت تربطه به علاقة صداقة وطيدة، ثم زادت جرعة عدائه بعد أحداث 11 سبتمبر، وكانت له قناعة ثابتة أن كل مؤمن بدين ما لابد أن يكون متطرفاً، لأن المؤمن يرى أن دينه هو الحق والآخر والآخرين على باطل. وطاف هتشنس طول الولايات المتحدة وعرضها يحاجج رجال الدين دون كلل أو تعب، وشاهدت إحدى مناظراته مع أربعة من الحاخامات اليهود، وكان الأربعة منفتحين على الرأي الآخر، وقال أحدهم صراحة “أنا مؤمن علماني وأصدق كل ما يقوله هتشنس، لكن بعد الموت قد تكون هناك حياة أخرى فما الضير أن أكون مؤمناً بها وما خسارتي؟”، لكن حتى بتلك المقولة لم يسلم قائلها من سهام هتشنس الناقدة. كان يتكلم هتشنس بهدوء وبثقة عالية ويقاطعه الجمهور بالتصفيق مرات ومرات.  غير الملحدين لم يسلموا من قلمه، حتى الرئيس الأسبق كلينتون اتهمه بإغواء الفتاة المسكينة لوينسكي، كما انتقد الأم تريزا وغاندي وأبدع في الهجوم على كيسنجر، حتى أن أخاه الكاتب بيتر هتشنس كان له هو الآخر نصيب من النقد المؤلم.  يقر كريستوفر- الذي قرأت الكثير من أعماله التي أنا على يقين أنها لن تترجم للعربية أبداً بحكم الثقافة المغلقة غير الواثقة من نفسها ومن إيمانها- أنه كان يشرب الخمر بكثرة ويهواها، لكن الخمر لم تؤثر على قدراته العقلية أبداً، وهذه لم تكن شهادته وحده فقط بل هي شهادة من عاصروه ولمسوا قدراته المذهلة، إذ كان يكتب أكثر من ألف كلمة يومياً حول أصعب وأدق مواضيع النقد في السياسة والفلسفة والأدب. حتى أنه قبل وفاته بأيام قليلة نهض من سريره بمساعدة أحد أصدقائه وأدوية السرطان والأشعة والمورفين كانت تنهش في جسده إلا أنها لم تؤثر على عقله الواعي، وكتب مقالاً طويلاً في الأدب (نشر مقدماً بعد وفاته في مجلة فنيتي فير عدد يناير المقبل). كان جسده ميتاً تقريباً، لكن عقله كان ينبض بالحياة وروح التحدي للموت.  وفي لقاء له قبل وفاته بأيام سئل: هل تخشى الموت؟ وألم تحن ساعة التوبة؟ فنفى بشدة وقال: “إنني لا أختلف عنك في أي شيء، فكلكم ستموتون، إلا أن معدل سرعتي للنهاية أخذت تتسارع أكثر منكم!”. مات هتشنس بعد أن اتهمه رفاقه اليساريون بالخيانة، لأنه شجّع وأيد التدخل الأميركي في أفغانستان والعراق. كان يرى نهاية أي مستبد هي عمل خير في حد ذاته بصرف النظر عن نوايا المتدخلين، كما كان لهتشنس مواقفه الصلبة بشأن ضرورة تدخل قوات “النيتو” لإنقاذ مسلمي كوسوفو، وتركه أهل اليسار بحجة تهوره في هذين الموقفين حين نقض مقدساتهم بلا هوادة. من تلك النقطة عارضه كاتب الـ”نيويورك تايمز” كوهين في مرثيته بأن العبر لا تكون في نهاية طاغية ما بقدر ما تكون بخواتيم الأمور، أي بما يتركه غياب ذلك الطاغية من شرور قد تكون أكبر. ما يثير دهشتي اليوم هي تلك الشجاعة التي واجه بها هتشنس ساعات الموت، وقدراته العجيبة على العطاء العقلي حتى في لحظاته الأخيرة. فأكثر الناس يؤمنون خوفاً مما بعد الموت، فالحياة في حقيقتها عبث لا طائل منه (أدب اللا معقول)، ولا يشذ عنهم إلا فئتان هما على طرفي نقيض، وهما الملحدون والمؤمنون.  بقي القول إن الموت لم يمهل هتشنس ليقول كلمته في الثورات العربية اليوم، ويبدو لي أيضاً أن هتشنس رغم موسوعيته الضخمة لم يكن على صلة قوية بالفكر الصوفي وتاريخه الرائع والفكر الإسلامي.

احمد الصراف

مقال سعودي طريف

قرأت هذا المقال على الانترنت، الذي سبق أن نشر في مطبوعة سعودية، ولسبب ما فقدت اسم كاتبه، وأنشره هنا لطرافته، بعد اضافة لمسات خاصة عليه:
«… دعتنا الغرفة التجارية للقاء الوفد التجاري الفنلندي برئاسة فخامة رئيسة جمهورية فنلندا، وهذه بعض خواطر تلك الليلة الممتعة:
قدّم لنا رئيس منتدى جدة الاقتصادي معلومات عن فنلندا، بيّن أن هذه الدولة تعدّ من أكثر دول العالم تطوّراً في الخدمات الاجتماعية ومن أعلاها دخلاً للفرد. وقدّم معلومة طريفة من احصائيات الأمم المتحدة بأن شعبها من أكثر شعوب الأرض سعادة! وفي سؤال لأحد الحضور عن سبب كون شعب فنلندا من اسعد شعوب الأرض؟ أجاب معالي الوزير بأن ذلك يعود لستة عوامل، ليس بينها اي عامل ديني، بل الطبيعة الجميلة جداً أولاً، وثانياً قدرتهم على الاستمتاع بأداء عملهم باخلاص، اما الأربعة عوامل فلحكومتهم دخل مباشر فيها:
أولا: الشفافية وانعدام الفساد الاداري، كأني به قال «الفساد شبه منعدم ولا نعرف أصلاً عمولات أو رشى أو استقطاعات أو منح أو استثناءات، اما الشرهات فهو علم لا يعلمونه».
ثانيا: العدالة الاجتماعية، حيث ان الفوارق الطبقية هي كأدنى ما تكون.
أما ثالثا فهو الاستقلال التام للقضاء. ورابعا التعليم الجيد مع الضمان الصحي الممتاز!
وقال الوزير إن مستويات التنمية في فنلندا ارتفعت بشكل كبير، وانهم بدلا من تصدير الأخشاب، كما كانت حالهم لسنوات، فانهم الآن يصنعون منه الورق ليصبحوا بذلك أهم منتج له في العالم، فرفع ذلك الدخل بشكل هائل. فتخيّلت كما لو أنهم دولة بترولية لا يصدّرون أي برميل خام، بل يصدّرون منتجات البترول بالفارق الهائل في السعر بين البترول الخام ومنتجات البترول! وقال ان فنلندا دولة من خمسة ملايين نسمة فقط، ودخلها القومي هو 650 مليار ريال سنويا، أي أكبر من دخل دول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة.
وعلىالرغم من ارتفاع مستويات الأجور فانهم لم يستقدموا أيدي عاملة رخيصة من الهند وبنغلادش وباكستان والفلبين.
ويستطرد الكاتب في القول انه كاد يسأل معالي الوزير الفنلندي هل حرية ابداء الرأي مكفولة للشعب الفنلندي الصديق، ولكن خاف عليه من الصدمة. وقال إن في فنلندا لا دخل من دون عمل، الا للعاجز، سنا أو ذهنا. ففنلندا هي منتجة تليفونات محمولة في العالم، أي هم الشعب الأكثر انتاجا للتليفونات للشخص الواحد ونحن الشعب الأكثر استبدالا واستهلاكا له للشخص الواحد. وفي فنلندا لا يقولون «حكومتنا الرشيدة»، فهي لا تنتج أي برميل بترول، وجوها شديد البرودة، مما قلص أنواع الحيوانات، فلا توجد لديهم نوق وجمال، وهذا حرمهم نعمة التمتع بمسابقات مزايين الابل، (التي توقفت في الكويت مع خروج الشيخ أحمد الفهد من الوزارة، بعد ان استمتعنا كثيرا بأدائه في النفط والكهرباء).
ويختم الكاتب مقاله إنهم في فنلندا لا يتبعون سياسة الباب المفتوح، بل سياسة الأبواب المغلقة بالتنظيم والقانون، وكل يأخذ حقّه كاملا، وحقّه فقط، من دون اللجوء الى «طويل العمر»!.

أحمد الصراف