حسن العيسى

النهار ولى وليل يجر وراءه ليلاً

اليوم مستنسخ من الأمس، وغداً سيكون مستنسخاً من اليوم، اللون الرمادي هو لون الحياة، هو لون غبار عالق في الهواء ودق بمسمار الجو الساخن، لا يريد أن يغادر ويتحدى بعناد مثير قانون تبدل الفصول.
تمضي في الصباح إلى عملك أو اللاعمل والفراغ ولا فرق بين الأمرين، فلا تشاهد غير سيارات وسيارات وخطوط من طوابير ممتدة من السيارات، تسير في دوائر مغلقة ببطء السلاحف، سيارات يقودها بشر غطوا رؤوسهم بملاءات بيضاء فوقها عُقُل يمضون في طريقهم، وقد يزجرك أحدهم بطريقة قيادته قائلاً: أنا مالك الطريق فتنحَّ جانباً، وسيارات مثلها، وأكثر منها يقودها بشر من بلاد الهند والسند رؤوسهم تلمع من دهن ثقيل حين تعكس أشعة شمس ملتهبة نفسها على مرآة رأس داكن تلاصقت خصلاته ببريل كريم، واختلط بعرق الكادحين المهاجرين.
لاحظ أن كثيرين منهم يقودون سياراتهم بخوف ووجل حين يرون سيارة شرطة من بعيد، وحين ثقل سير المرور، فتح أحدهم الباب بزاوية حادة، وبصق على الأسفلت بصقة بمسافة متر أولها في فمه وآخرها تهاوى على الأرض.
لا جمال ولا ألوان غير اللون الرمادي يسود الوجوه والوجود، ووجودنا لحظة لا يمكن حسابها من زمن هو المكان، هو مساحة فراغ بكون وأكوان بلا بداية ولا نهاية.
رجال يقودون سيارات ورجال يسيرون في الشوارع، لا أنثى، لا جسد رشيقا، لا كائن حيا يرطب حياة الصحراء، وهي صحراء جرداء وستظل صحراء خاوية ولو نطحت قرون عماراتها بطن السماء…
ملل أو “ملال” بالجمع وليس اكتئاباً، فالاكتئاب حالة “شخصية” ومرض يصيب فرداً أو أفراداً، والملل حالة “موضوعية” تخيم على الوجود الراكد، وتصيبك فجأة وأنت ساهم في اللاشيء طلقة ذكرى من عمر الشباب، تهمس بلوعة النوستالوجيا عن أيام مضت ولا تعود، تتذكر أغنية روسية قديمة، تأمركت، مطلعها يقول:
those were the days my friend
we thought they would never end
we would sing and dance forever and a day we would
live the life we choose
وتترجم معانيها بنثر “كانت تلك الأيام يا صديقي التي تصورنا أنها لن تنتهي، غنينا ورقصنا على طول المدى وعشنا الحياة التي اخترناها… أو قد تترجم “لوعة” الذكريات بكلمات الشاعر عبدالمحسن الرفاعي وغناء عبدالله الفضالة “أحط خدي على ايدي واحاسب روحي بروحي…”، ثم تتسلسل إلى وعيك التائه عبارات “كراب” في مسرحية “شرائط كراب” لصموئيل بيكت “…الآن اختتم هذا الشريط، ربما تكون أجمل سنوات عمري قد مضت، لكني لا أريدها أن تعود، على الرغم من النار المتأرجحة داخلي الآن، لا أريدها أن تعود” ( ترجمة د. نادية البهناوي).
رأى بيكت عبثية الحياة وأقسم على ألا معناها، وصاغ مع كامو وجان جينيه وغيرهما أدب اللامعقول، وقبلهم كان أبو العلاء المعري في “غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادِ، وشبيه صوت النعي إذا قيس بصوت البشير في كل نادِ”. شبه المعري هو شبهنا حين لا تفترق حالة العزاء عن حالة مباركة زواج، بغير عبارة “عظم الله أجركم” في الأولى، ومبروك في الحالة الثانية مع مصاحبة عشاء دسم يجثم على صدرك في ليل طويل.
جوعى الصومال وإثيوبيا لا يعانون “الملل” الذي نتجرعه هنا في الكويت، فالجائع والفقير فرحتهما في لقمة أكل ترد الروح وليس لقمة بهجة أجهضت من جوف الفراغ. الجوع يقتل الجسد، والفراغ يقتل الروح، وبلدنا من غير روح، ولننته مترنمين مع “كراب”… “النهار ولى، وليل يجر وراءه ليلا” لكن، لحظة، فأنت لست مثل “كراب”، فأنت تشتاق إلى أيام العمر الجميل، وبالتأكيد، تتمني أن تعود وتتوسل للزمن: “ارجع يا زمان”، إلا أن الزمن لن يعود، وسيمضي بلا نهاية، وتتذكر أن عمرك نقطة ضئيلة تبقى في مساحة من غير حدود.

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *