محمد الوشيحي

… أو فليعتزل النساء

يتحدثون بحماسة فائقة، يشرحون مآساتهم الوظيفية بقهر متضخم وحزن يخجل الثكلى، وبو سلمان يستمع ويحدق في العيون والشفاه، لكن لا يفقه قولهم، فعقله لم يكن معه، أبدا. يتحدثون عن حقوقهم في الترقيات فيسافر بي خيالي إلى الأرجنتين، أثناء حديثهم، لأرقص التانجو على ضفاف الأنهار هناك… إطلاقا لم يكن الأمر استهانة بهم ولا بقضيتهم، وإنما العقل ولله الحمد وصل إلى مرحلة لم يعد فيها هرش الجبهة يجدي لتنشيطه.
أحيانا أشعر بأن العقل له روح وكيان مثلنا تماما، وله ساعات عمل محددة، فإذا ما شغّلته أكثر من الساعات المتفق عليها، بعث إليك وصولات الإنذار، فإن لم ترتدع حمل ما خف وزنه وغلا ثمنه ورفع ذراع الوداع وغادر بالسلامة، وحلّني على ما يرجع… تتأسف له، تستجديه، تعتذر، تقسم بخالقك وخالقه بحاجتك الماسة إليه في هذه الفترة الحرجة، ولا فائدة. فتشتمه وتشتم أهله وتنام ملوما محسورا.
أتذكر فترة احتلال الكويت، الكرة الأرضية بمحيطاتها وقاراتها وأنهارها وجبالها كانت متوقفة على قرار من جورج بوش الأب، وبقية الكواكب الشقيقة كانت تراقب أصبعه البنصر، وهو يلعب الغولف ويمسح على رقبة كلبه، فيصرخ سكان الأرض «يا ابن الكلب»، يقصدون الكلب طبعا لا الرئيس، لكن الرئيس يواصل ضرب الكرة وتبادل الضحكات مع مستشاريه، على اعتبار أن الوقت هذا مخصص لراحته. وكما قال الأستاذ امرؤ القيس: «اليوم خمر وغدا أمر»، قال بوش أيضا، فكان الغد أمرا جفت فيه الحلوق وجحظت العيون وقيّد الصمت الألسن، فامتلأت الفضاءات بالطائرات والصواريخ، والبحار بالبوارج والفرقاطات، والبراري بالدبابات والمدرعات، وارتجت الأرض وزلزلت، وما هي إلا لحظات حتى وجدت العقبان أمامها بوفيها مفتوحا من مئات الآلاف من الجثث، فأكلت إلى أن أصيبت بعسر الهضم، في الوقت الذي حملت فيه الضباع بهاراتها معها وتوجهت للمطلاع، فالدعوة هناك كانت عامة، والنعمة زوّالة.
وعلى يمين الخريطة، هناك في الشرق، كانت إدارة شركة تويوتا للسيارات تجبر مهندسي التصميم على قضاء الأجازة في الخارج، ولا أدري هل «الخارج» هذا يعني خارج اليابان بأكملها أم خارج مدينة المصانع. الأكيد أن القرار لم يكن قرار المهندسين، بل قرار الإدارة التي كانت تراقب مدى تنفيذهم له خوفا على عقولهم التي تدر المليارات، لذا فعقولهم هي «رأس المال» الذي يستحق التدليل.
وأقول لمن توقفت عقولهم مثلي، من استطاع منكم السفر فليسافر، ومن لم يستطع فليعتزل الصحف والنساء إلى إشعار آخر.

 

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *