كان ذلك في الرابع عشر من يوليو «تموز» عام 1990، حين وصلتني دعوة من السفير العراقي في الكويت – في ذلك الوقت – ويدعى «عبدالجبار عمر غني» لحضور احتفالية ضخمة بمناسبة ذكرى ثورة تموز «الخالدة»، وعندما دخلت إلى «القاعة الماسية» في فندق شيراتون في الثامنة من مساء اليوم ذاته تبين لي أن السفير أرادها حفلة وداع لكل الكويتيين – ربما كان يعلم أو لا يعلم – بأن دبابات وجيش بلاده ستحتل هذا البلد الصغير في فجر الثاني من أغسطس «آب» 1990، أي بعد حوالي ثمانية عشر يوما من تلك الحفلة التي حضرها أكثر من ألف مدعو داخل قاعة تتسع – بالكاد – لستمئة أو سبعمئة شخص… فقط!!
كان الجو مكفهرا – أقصد الجو السياسي – فقد وصل في اليوم ذاته «طارق عزيز» وزير الخارجية العراقي للكويت، ومنها أطلق تصريحه الشهير ضدنا وضد الإمارات العربية المتحدة متهما الدولتين بـ «الإنتاج المكثف للنفط بهدف تخفيض أسعاره وتحطيم الاقتصاد العراقي».. كما زعم قائلا: «لقد وصلت السكين إلى.. العظم»!! غادر «عزيز» الكويت في اليوم التالي، وفي اليوم الذي يليه وصل صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد أمير الكويت – وكان وقتها نائبا لرئيس الوزراء ووزير للخارجية – إلى العاصمة البحرينية المنامة في رحلة شملت كل دول مجلس التعاون الخليجي لشرح تداعيات الموقف ومحاولة إيجاد حل سياسي مع ذلك الديكتاتور المجنون الملقب بـ «حارس البوابة الشرقية» و.. «سارق البوابة الجنوبية» وهي جارته الصغيرة.. الكويت!!
ومن المطار مباشرة توجه الشيخ «صباح» للاجتماع مع المغفور له الشيخ «عيسى بن سلمان آل خليفة» أمير دولة البحرين!!
.. «من يطمئن على.. من»؟!
.. يروي لي أحد أعضاء الوفد المرافق لصاحب السمو الشيخ صباح الأحمد حكاية ذلك اللقاء بين الاثنين و.. سأترك الرجل يتحدث بنفسه إليكم ليقول: «استقبلنا الشيخ عيسى بكل ترحاب ولهفة، وظهر واضحا عليه قلق لم يستطع أن يخفيه بكلمات الترحيب حول التهديدات العراقية وما إن أخذنا مقاعدنا حوله حتى ابتدأ الشيخ صباح بالحديث حول «الجهود العربية للوساطة بيننا وبين بغداد وبأن الأمر سوف يحل بطريقة ودية وسلمية بإذنه تعالى، وليس هناك من داع لأي قلق يشعر به أي شقيق عربي علي الكويت وسيادتها، ما أن انتهى وزير الخارجية الكويتي من حديثه حتى رد الشيخ عيسى – رحمه الله – قائلا وبلهفة شديدة: وماذا لو لم تنته الأمور عند هذا الحد، وقام صدام بالتصعيد واجتياح الحدود الكويتية؟ فيرد عليه الشيخ صباح مطمئنا قائلا: لن تصل الأمور إلى هذا الحد، وإن شاء الرحمن ستنتهي على خير، فيعود الشيخ عيسى بن سلمان ويكرر سؤاله بذات اللهفة والقلق: وإن لم تنته على خير واجتاح حدودكم؟ فيتكرر التطمين من صاحب السمو أمير الكويت – وزير الخارجية في ذلك الوقت – حتى أن السفير الكويتي لدى المنامة «فيصل الحجي» يقول لي متذكرا ذلك اللقاء التاريخي ومبتسما: لم نكن نعرف من الذي يريد أن يطمئن على الآخر؟ لقد توقعنا أن نسمع كلمات الاطمئنان التي تريحنا من قسوة التهديدات العراقية ضدنا من الشيخ عيسى، فإذا بنا نحاول طمأنة شقيقتنا الصغرى البحرين المتوجسة خيفة من غدر جارنا بنا.. أكثر منا!!
خرج الوفد الكويتي من ذلك اللقاء ولديه قناعة لا تهزها زلازل الدنيا وبراكينها بأن ذلك البحر الفاصل بين البلدين قد تعلق فوقه جسر من قلوب وشرايين الشعبين!!
.. وجاءت جمعة «الإمام الصادق»!
ربع قرن من الزمان مضى على قلق ولهفة وخوف أمير البحرين الراحل – طيب الله ثراه – حول تهديد كان يراه قادما ليحرق الكويت برمتها، عصفت بالمنطقة خلالها أحداث وأحداث، تطابقت فيها الرؤى ساعة وتباينت تارة أخرى، لكن الهوى – على الدوام – كان كويتيا في البحرين، وبحرينيا في الكويت مهما اشتدت رياح السياسة وعواصف المؤامرات، فقد ظل ذلك الجسر الذي تحمله القلوب والشرايين موصولا ومتماسكا بين البلدين ضد أيادي «شياطين الإنس وعفاريت بني آدم» التي تحاول أن.. تهز طرفيه!!
و.. جاءت تلك الجمعة الحزينة في الأيام الأولى لشهر الصوم حين وقع التفجير الإرهابي في مسجد «الإمام الصادق» بوسط العاصمة الكويتية تاركا خلفه 28 شهيدا، و.. مليون ومئة ألف مصاب ومجروح ومكلوم هم كل أبناء الشعب الكويتي.. قاطبة!!
هل كان المسجد… بحرينيا؟!
.. وصلت إلى البحرين ليلة تفجير المسجد في زيارة تم الإعداد لها مسبقا لتقديم التهاني والتبريكات للأشقاء والزملاء في المملكة الصغيرة ترسيخا لتقليد أحرص عليه كل عام في هذا الشهر الكريم، وإذا بي أتلقى.. التعازي والمواساة في الحادث الإرهابي الذي أودى بحياة المصلين في الكويت حتى شعرت وكأن مسجد «الإمام الصادق» كان بحرينيا وليس.. كويتيا!!
باركت للأمير.. فعظم أجري!!
.. شعرت بنبض دقات قلب صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء وأنا أصافحه في ديوان نجله سمو الشيخ علي بن خليفة نائب رئيس الوزراء، وهو يشد على يدي ويمسكها بكلتا يديه بينما كلماته تقطر ألما وحزنا على ما حدث في تلك الجمعة الحزينة في الكويت، لتعود بي الذاكرة إلى تفاصيل ذلك اللقاء قبل 25 سنة بين الشيخ صباح والشيخ عيسى مسترجعا لهفة وقلق أمير البحرين الراحل على الكويت ومقارنا لهفة شقيق الأمير الراحل بها لأجد أنهما ثمرة طيبة واحدة من شجرة طيبة واحدة! نظرت إلى عيني سمو الأمير خليفة بن سلمان وكان لسان حالي يقول: «من شابه أخاه.. فما ظلم»! جئت له مباركا لقدوم رمضان، فإذا به يعظم أجري برحيل ضحايا من.. بلدي! هذه هي مملكة البحرين وهؤلاء هم رجالاتها!!