محمد الوشيحي

العقارب تريد حقها أيضا

لكل زمان دولة ورجال. وبعض رجال الفن في نهاية الثمانينات من فصيلة خاصة. شيء أشبه بالفقاعة، انتفخت وتلاشت بلمح البصر.
كنت طالبا في مصر عندما ظهرت أغنية «لولاكي» التي غناها «زنبرك» على هيئة إنسان اسمه علي حميدة. مصري بهيئة ليبية، طويل الشعر، ضئيل الجسم. وكان لصحته ولياقته العالية يقفز وكأن أرضية المسرح من جمر، وكلما تجلّى رقص حاجبيه وقفز أعلى، حتى خُيّل لي أنه سيتشعبط في السقف لا محالة، عاجلا غير آجل.
نحو ساعة، كانت هي مدة قفزاته، أو وصلته الغنائية، ليخرج بعدها ويخلفه على المسرح «بلاء» آخر على هيئة إنسان لم أشاهده من قبل، هيئته توحي بأنه سباك محترف، من النوع الذي لا تأخذ معه الحنفية أكثر من سبع دقائق في أسوأ الأحوال. من هذا يا قوم؟ قالوا هذا فنان اسمه «حمدي باتشان». خير اللهم اجعله خيرا. حفل مضروب من بدايته. وماذا يريد «باتشان» منا في ليلتنا النحس هذه؟ قالوا استمع واستمتع… وشدا باتشان بحنجرته السمكرية أبياتا من معلقة امرؤ القيس: «ايه الأساتوك ده، اللي ماشي يتوك ده، ايه اللي انت عامله ده، عيب عليك في السن ده، يطلع منك كل ده، كلمني كلم كلم، فهمني فهم فهم»! ثم تمادى وقلّ أدبه في محاولة منه لإقناعنا بعذوبة صوته، ووضع يده على خده طربا وأغمض عينيه وترنم برائعة أم كلثوم: «يالله نعيش في عيون الليل، ونقول للشمس تعالي بعد سنة مش قبل سنة، دي ليلة حب حلوة بألف ليلة وليلة». فرفعت يدي بالدعاء: اللهم هيئ له قطارا يدهسه في هذه الليلة المباركة.
وفي الفترة ذاتها التي أخرجت لنا هذين المبدعين، كان عمرو دياب يشق طريقه في ملاهي الفنادق وشارع الهرم، فملأ الدنيا وشغل الناس. فظننت بأنه مجرد ظاهرة ستنتهي الساعة التاسعة مساء الأربعاء المقبل، أو صباح الخميس على أقصى تقدير. ودارت الأيام، وإذا بالقائمين على مهرجان هلا فبراير في الكويت في إحدى السنوات يتعاقدون مع عمرو دياب لإحياء الحفل الختامي بدلا من محمد عبده! إذاً عمرو دياب في منزلة محمد عبده. رحمتك يا رب! ودارت الأيام أكثر وأسرع، فشاهدت عمرو دياب في بيروت يهرب من المعجبات وهن يصرخن بهستيريا ويطاردنه بجنون لملامسته، فأدركت حينها بأنني أعيش خلف الزمن وخارج الخريطة، وتيقنت بأن لكل زمان «رجاله».
مر شريط الذكريات هذا أمامي بعدما استمعت، في حفلة خاصة، إلى «فلو» يرتدي بنطلونا على وشك السقوط، هيئته تبث الغرور في صدور العقارب! ينعق ولا أتخن بومة، وينهق ولا أجدع حمار، ويبحث عمن يتبناه ويفتح له أبواب الإعلام لينثر إبداعاته، وكأن هواءنا ينقصه التلوث! وبالتأكيد سيجد ضالته وستباع تذاكر حفلاته، بعد سنوات، في السوق السوداء المتنيلة بستين نيلة. فنحن خارج الزمان، وهم رجاله.

 

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *