منذ ثلاثة عقود ونصف العقد بدأت في لبنان الحرب الأهلية التي دامت ستة عشر عاما (1975 1991-) على وجه التقريب. وقد تحولت تلك الحرب إلى واحدة من أهم الحروب الأهلية في تاريخ الشرق الأوسط الحديث وذلك لكثرة لاعبيها، ولوقوعها على بوابة القضية الفلسطينية، ولطبيعة المراحل التي تحكمت بمسارها، ولحجم الخسائر التي شملت كل فئة من الفئات المشاركة بها. الحرب الأهلية في لبنان شكلت للكثيرين من لاعبيها اللبنانيين، عندما بدأت، محاولة للتخلص من واقع قائم من أجل إيجاد واقع جديد. قطاع كبير من الحركة الوطنية اللبنانية الأقرب للمسلمين أراد أن يتخلص من «الكتائب اللبنانية» و«حزب الأحرار» بصفتها أحزاباً تمثل قطاعا كبيرا من المسيحيين المسيطرين على لبنان، بينما سعى قطاع كبير من المسيحيين إلى التخلص من نفوذ المقاومة الفلسطينية بصفتها عنصر تقوية للحركة الوطنية اللبنانية المحسوبة على القواعد الإسلامية والنفوذ العربي الأكبر. أما المقاومة فكان لها رأيان. رأي لم يكن يريد التورط في الحرب وكان يفضل توقفها بعد جولة أو أكثر، وآخر كان يفضل اشتعالها ويشارك والحركة الوطنية اللبنانية آمالها بحدوث تغير كبير في لبنان، وتحجيم الأحزاب المسلحة اليمينية المسيحية (كتائب ـ قوات لبنانية، أحرار، حراس ارز وهكذا). أما سورية فهي الأخرى كانت الدولة الجارة التي تنظر إلى لبنان بعين التدخل عند أول فرصة. لهذا دعمت سورية في البداية جهات فلسطينية ولبنانية رئيسية شاركت في اشعال الحرب ثم تخلت عنها وتحالفت مع الكتائب والأحرار اليمينيين وذلك وفق سياسة الهدف منها التمدد وتوسعة رقعة النفوذ لتشمل لبنان. أما العالم العربي فهو الآخر عاش الانقسام: فنسبة كبيرة منه أيدت الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، ونسبة منه شعرت بالرهبة من سقوط لبنان في وحل الحرب وتناقضات السياسة العربية والعالمية والفلسطينية.
ولم ينته الأمر بهذا العدد من اللاعبين فقط. فقد كان كل يوم يأتي بلاعب جديد. هكذا تطورت قوة سعد حداد المتعامل مع إسرائيل في الجنوب عام 1976 وتطورت أيضا قدرات إسرائيل على التدخل في الشأن اللبناني، كما تطورت قدرات الولايات المتحدة للتدخل إضافة إلى وجود دور لنقيضها في الحرب الباردة… الاتحاد السوفياتي. كان الاتحاد السوفياتي يؤيد اليسار اللبناني المتمثل بالحركة الوطنية وقطاع كبير من المقاومة الفلسطينية، أما الولايات المتحدة فكانت تعارض انتصارات هذا التحالف وبالتالي غمزت بعين أخرى لسورية للتدخل عسكريا في لبنان في ربيع 1976 لإنهاء هذا الوضع، وغضت الولايات المتحدة أيضا النظر عام 1982 عن تدخل إسرائيل في حرب رئيسية لإنهاء وجود «منظمة التحرير الفلسطينية» في بيروت ولبنان.
الحرب الأهلية اللبنانية كانت تغير جلدها كالأفعى كل يوم وذلك لتضمن استمرار لهيبها، لقد أطلقت هبة مستمرة وكأنها تنين يمتلك من النيران ما لا يخبو. فحلفاء اليوم كانوا أعداء الأمس، وأعداء اللحظة تحولوا لأصدقاء الغد. في أحد الأيام كانت سورية حليف المقاومة والحركة الوطنية اللبنانية، وفي اليوم التالي كان الطرفان يتقاتلان بعنف وقوة في لبنان، وفي أحد الأيام كان اليمين المسيحي يقاتل سورية وإذا به في يوم آخر يتحالف معها ثم يتقاتل معها في العام الذي يليه. أما بالنسبة للـ «الكتائب» ففي أحد الأيام كانت إسرائيل عدوا لدودا لها، وفي يوم آخر كانت تتحالف مع إسرائيل بصورة علنية من أجل التخلص من المقاومة الفلسطينية عام 1982، وفي أحد أيام عام 1983 جاءت الولايات المتحدة بقواتها لحفظ السلام ثم ما لبثت ان انسحبت بعد أن وجه لها «حزب الله» سلسلة من العمليات، وفي يوم آخر رحبت جماهير الجنوب بدخول إسرائيل لتخليصها من المقاومة الفلسطينية بعد أن تعبت من الحرب المفتوحة بينها وبين اسرائيل وبين انعكاس تناقضات الواقع العربي والحرب العراقية – الإيرانية في الجنوب، وإذا بالجنوب ينقض على إسرائيل في الشهور التي تلت حرب 1982. وبنفس الدرجة كان الصراع الفلسطيني – المسيحي على أشده، ولكن عندما قامت «حركة أمل» الشيعية عام 1986 حليفة المقاومة السابقة بهجوم كبير على المخيمات الفلسطينية تحالف الفلسطينيون، من أجل التسهيلات، مع بعض الفصائل المسيحية والقوات اللبنانية. وفي مراحل أخرى تحول حلفاء الأمس من «كتائب» و«قوات لبنانية» و«أحرار» وهي أحزاب مسيحية إلى التقاتل فيما بينهم ودخلوا في حرب تصفية لا نهاية لها.
حرب غريبة تلك التي شهدها لبنان تداخل فيها العربي مع الطائفي مع القومي مع الطبقي مع السياسي ومع الرغبة بالقتل ومع الفوضى، ومع نهاية ستة عشر عاما من القتال في لبنان لم يعد أحد يعرف شيئا عن أسباب القتال، أصبحت الحرب مدرسة في القتل لا حدود له. ومع نهاية الحرب لم يحقق أحد نصرا على أحد. دفع الجميع أثمانا مضاعفة من فاتورة لم تسدد حتى اليوم. المنتصر في الحرب في يومها الأول كان مهزوما في الليلة التي تلتها، والمهزوم في إحدى المراحل كان منتصراً في المرحلة التي تليها. كان الثمن كبيرا. اللبنانيون لم يستحقوا كل هذا، ولكنهم لم يعرفوا كيف يتوقفون وسمحوا لأنفسهم بالاستمرار في دائرة تخصصت بنشر الرعب. وتبين أنه متى ما بدأت بذرة الحرب فإن إيقافها يتحول لمهمة مستحيلة. إن منطق الحروب الأهلية هو الانتقام لمن سقطوا في قتال الأمس. فالحروب الأهلية يتحكم بها منطق الانتقام للماضي بينما تدمر في طريقها كل أنواع الحياة والمستقبل.