تقترب اللحظة وتبدو الأوضاع، وكأنها ستولد اتفاقاً جديداً بين إسرائيل وسورية، ولكن سرعان ما يبدو الأمر وكأنه بعيد. المفاوضات السورية – الإسرائيلية التي تسارعت وتيرتها في الشهور القليلة الماضية بوساطة تركية عكست إمكانية التقاء المصالح السورية والإسرائيلية على عدد من الأمور أهمها: عودة الجولان إلى سورية في ظل اعتراف متبادل بين البلدين وتطبيع وسلام، ويتم هذا في ظل الاعتراف الإسرائيلي بالمصالح السورية في لبنان خصوصاً على الصعيد الاقتصادي، بينما تتم عملية حماية المصالح الأمنية الإسرائيلية المقبلة من لبنان. هكذا يسير الطرفان باتجاه نوع من الاتفاق سيتضمن بطبيعة الحال وضع ضوابط على «حزب الله» وتحويله إلى حزب سياسي يحترم الاتفاق السوري – الإسرائيلي. وينطبق الأمر نفسه على علاقة سورية بكل من إيران و«حماس». العقدة الأكبر المتحفظة على سورية تتعلق بالموقف الأميركي، حتى الآن، رغم وجود عدد كبير من أعضاء مجلس الشيوخ ومجلس النواب الأميركي ممن يحبذون تشجيع اتفاق سوري – إسرائيلي بدليل الرسالة التي أُرسلت منذ أكثر من أسبوع إلى البيت الأبيض ووقع عليها أكثر من 250 عضواً من مجلس النواب وستين عضواً من مجلس الشيوخ، بما فيهم المرشحان باراك أوباما وجون ماكين.
الأهم أن الرسالة ذكرت أهمية تشجيع اتفاق سوري – إسرائيلي. ومع ذلك تبدو الديبلوماسية السورية مضطره إلى تجاوز مرتفعات سياسية عالمية صعبة قبل أن تصل إلى مرتفعات الجولان. إن الاستراتيجية السورية أخيراً حققت بعض التقدم من خلال الموافقة على الحل في لبنان ومن خلال التفاوض مع إسرائيل، وذلك لكسب الأطراف المؤثرة أميركياً لصالحها. إن هذا كله يجعلنا لا نستبعد تطورات جديدة في هذا المسار في الشهور القليلة المقبلة.
من جهة أخرى، إن إسرائيل لا تشعر بوجود خطر سوري مباشر عليها، كما أن حكومة أولمرت تواجه مشكلات كثيرة تجعلها ضعيفة في مقدرتها على صنع قرارات استراتيجية تجاه الفلسطينيين في هذه المرحلة. ولكن يمكن القول إن حكومة أولمرت قد تجد في الاتفاق مع سورية وسيلة أكثر سهولة تأتي بنتيجتين مرجوتين: الأولى إيقاف الدور السوري المؤيد لـ«حماس»، مما يؤثر على «حماس» ويضبط وقيعتها، إضافة إلى إيقاف التأييد السوري لـ«حزب الله»، مما يفرض على «حزب الله» انكفاء داخلياً لبنانياً. وقد يرى أولمرت إمكانية الانتصار النسبي على «حزب الله» و«حماس» من خلال الاتفاق مع سورية. ولكن الرافض لهذه المعادلة لن يكون فقط «حزب الله» و«حماس»، بل إيران التي ستتأثر سلباً نتيجة التقارب السوري – الإسرائيلي المؤدي لصفقة على الجولان وتفاهم على لبنان. هكذا ستشعر إيران أن إحدى أوراقها الأساسية في الأقليم قد سلبت منها قبل بدء التفاوض على السلاح النووي الإيراني. ويمكن القول إن أي اتفاق سوري – إسرائيلي بموافقة أميركية سوف يضع سورية على طريق مختلف في ظل توازنات الشرق الأوسط. كما أن اتفاقاً من هذا النوع سيخفف الضغط على إسرائيل للتوصل إلى اتفاق على المسار الفلسطيني، مما سيؤخر موضوع الحل الفلسطيني – الإسرائيلي الى الإدارة الأميركية المقبلة.
في الوقت نفسه لا يوجد ما يمنع إيران هي الأخرى من عقد صفقتها مع الولايات المتحدة، وذلك في إطار اعتراف لها بدورها في ظل إقرار بالتراجع عن التخصيب والتوصل إلى حل وسط. فالحل العسكري جاهز أميركياً تجاه إيران، كما أن فرصه تتساوى مع فرص الحل الديبلوماسي في هذه المرحلة الحساسة. إن الإعلان عن قيام الولايات المتحدة باستخدام مبلغ 450 مليون دولار بهدف دعم المعارضة في إيران، خصوصاً في المناطق التي توجد فيها قوميات ذات المنحى الانفصالي في إيران، مؤشر لتبلور الحل العسكري الأميركي، وهو مؤشر في الوقت نفسه للاستعداد لمقايضة هذه التدخلات بحلول سياسية. ومع ذلك يمكن القول إن أصعب عقدة ستبقى لفترة طويلة هي تلك المتحكمة بالعلاقة الأميركية – الإيرانية. فحتى الآن يبقى التناقض بين الدولتين والقيادتين والعقليتين والسياستين استراتيجياً، إذ سيبقى الهدف الأميركي في ظل ادارة بوش تغيير النظام في إيران بصورته الراهنة. ولكن الرئيس بوش لديه مدة محددة، وهي نهاية هذا العام، مما يضع عليه قيوداً ويضع أمامه حواجز كثيرة عليه اجتيازها ليحدث تغييراً كبيراً اتجاه المواجهة أو المساومة.
لعبة الأمم الأكبر تدور في الشرق الأوسط، إنها كلعبة الشطرنج، هبة باردة في أحد الأيام، تليها هبة ساخنة في اليوم التالي، تهديد في الصباح وتراجع في المساء، الطائرات جاهزة للذهاب إلى المواقع المحددة، والسياسيون جاهزون للذهاب إلى طاولاتهم للتفاوض، هذا هو الشرق، وهو العالم الذي مازال لا يقبل بالتسويات إلا مع السخونة، وهو يحتاج السخونة والوصول إلى الحافة: حافة الانفجار وحافة الدمار قبل ان تبدأ الديبلوماسية. وفي منطقتنا لا يقبل أحد بالتنازل إلا إذا كان المسدس موجها إلى رأسه ولا يقبل أحد بالعقل إلا إذا استنفذ مقومات الدمار. لغة الحافة والمجازفة بكل شيء هي اللغة التي نحب. كم خسرنا من جراء هذا المنطق، وكم دفعنا أثماناً مضاعفة في بلادنا العربية منذ الستينات حتى اليوم، لأننا لا نغير هذه المعادلة عندما نمتلك القدرة على التغيير.