حقق السيد حسن نصرلله تحولاً في الإطار العربي من خلال تحرير الأسرى اللبنانيين واستعادة رفات أكثر من مئتين من المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين والعرب. وبينما يبدو العالم العربي ضعيفاً من شدة الحروب المحيطة به وبسبب عوامل داخلية عدة، بدا «حزب الله» في واحدة من أقوى تعبيراته السياسية والإنسانية. بالنسبة إليّ شخصياً ولملايين العرب كان المشهد مؤثراً لأنه عكس رمزية كبيرة تخرج من عمق الصراع وتاريخه ومراحله. فعملية تبادل الأسرى حملت معها تاريخاً لمناضلين صامتين ضحوا بحياتهم على مدى العقود الثلاثة الماضية. لقد فرض الحدث حالة توازن معنوي وسياسي مع إسرائيل، لأنه قدم رسالة شاملة لكل لبنان وفلسطين وبقية العرب.
ومهما اختلفت الآراء بالحزب ودوره وأعماله، فمنا من يتفق معه ومنا من يختلف، إلا أنه في هذا التحرك حقق معادلة في التفاوض غير المباشر مع إسرائيل وفي إخفاء المعلومات على مصير الجنديين، مما أعطى التفاوض مساراً مختلفاً. لقد ربط الحزب بنجاح وحس تاريخي بين ما وقع في زمن المقاومة الفلسطينية مع ما يقع في جنوب لبنان في هذا الزمن ومع ما يقع في فلسطين مع السجناء وفي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس المحتلة. إن إصرار الحزب على مركزية قضية الأسرى ورفات الشهداء أكد للفلسطينيين العرب أنهم ليسوا لوحدهم، وأن مرورهم في لبنان كان هو الآخر جزءاً من مشروع أكبر في طريق الحقوق وتقرير المصير، كما أكد للبنان أن تلبية إسرائيل للشروط بما فيها خروج آخر جندي إسرائيلي من الأراضي اللبنانية هو الآخر بداية تهدئة ممكنة بانتظار قيام إسرائيل بشيء شبيه على بقية الجبهات وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة.
كان سمير القنطار قد أُسر منذ ثلاثين عاماً في مدينة نهاريا الإسرائيلية، عندما كان عضواً في «جبهة التحرير العربية»، (وهي منظمة فلسطينية بعثية كانت تعمل مع بعث العراق). ورغم أن القنطار مسلم درزي إلا أنه خرج من السجن يحمل فكراً يقترب في توجهاته من «حزب الله». على مدى ثلاثين عاماً برزت حركات وتراجعت حركات، واختلفت العناوين، فقد بقي جوهر القضية الفلسطينية واحداً، فالناصرية أسست للمقاومة الفلسطينية والثورة الإسلامية في إيران أسست للتغيير الأوسع في المسألة الإسلامية، والمقاومة الفلسطينية مهدت لـ«حزب الله»، و«حزب الله» مهد لـ«حماس»، و«حماس» ستمهد لآخرين في ظروف مختلفة ومراحل متجددة. وعندما أُسر القنطار لم يكن «حزب الله» قد تأسس أو تواجد على الساحة، بل كان معظم الذين كونوا «حزب الله» يعملون في منظمات فلسطينية، وأخرى وطنية لبنانية، كما أُسس الحزب بعد الثورة الإسلامية في إيران.
السيد نصرالله كان مرناً في خطابه تجاه لبنان وتجاه الأمن ومشروع الدولة اللبنانية وبناء لبنان. هو لم يزايد على العرب الذين يمارسون الديبلوماسية السياسية. ولكنه انتقد عدم قيامهم بواجباتهم حتى في مجال الديبلوماسية. في الوقت نفسه الذي تم إبانه تبادل الأسرى كان الملك عبدالله بن عبد العزيز، ملك السعودية، يقود مؤتمراً عن الوسطية والاعتدال والحوار بين الأديان في إسبانيا. هذه الدعوة لقواسم مشتركة بين الديانات لا تقل أهمية عما كان وقع في لبنان في اليوم نفسه. فبين خط القتال العربي وخط الديبلوماسية والحوار العربي الكثير من الاختلاف والتقاطع، ولكن هناك الكثير من التكامل في الوقت نفسه. فلا تناقض بين المشاريع، ويجب أن نصل إلى صيغة تتكامل فيها الجهود لبناء وضع عربي وإسلامي أفضل.
وبينما حقق «حزب الله» للعرب نصراً معنوياً مهماً وللمسلمين شعوراً حقيقياً بالموقف، إلا أن الحزب غير قادر على إيجاد حل لاختفاء الإمام موسى الصدر الذي خُطف قبل ثلاثين عاماً. فقضية موسى الصدر، ذلك الإمام المعروف الذي قاد جنوب لبنان وشيعته بصورة إيجابية على مدى سنوات طوال واختفى مع رفيقين له إبان زيارة له لليبيا في أواخر السبعينات تبقى بلا حل. هناك ضرورة كبرى كي يعمل العرب بما يمتلكون من علاقات خاصة مع ليبيا على حل نهائي للغز اختفاء الإمام موسى الصدر. يجب تحمل مسؤولية إغلاق هذا الملف في العلاقات الشيعية – السنية والليبية – اللبنانية. ربما بإمكان المملكة العربية السعودية التي لعبت دوراً خاصاً في حل قضية لوكربي التحرك بهذا الاتجاه، وذلك لموقعها الكبير عربياً وإسلامياً ولبنانياً.
بعد عملية التبادل الأخيرة سوف تكتسب قضية الأسرى في فلسطين بعداً جديداً، لقد تداخل الموقف العربي مرة ثانية واستعادت الذاكرة العربية اللبنانية والفلسطينية تجارب ومحطات قاسية في الثلاثين عاماً الأخيرة، ولكنها أخذت دفعة جديدة إلى الأمام. إن الأمل كبير بأن تكون حرب يوليو 2006 آخر الحروب، وبأن تكون عملية التبادل بداية تراجع في فهم إسرائيل لتعاملها مع العالم العربي عموماً، والقضية الفلسطينية خصوصاً.