وحياة هذه التمرة السمراء وفنجان هذه القهوة الشقراء لا أتمنى شيئاً أكثر من التسلل خلسة إلى عقول مستشاري أصحاب القرار، واحداً واحداً، والتجول في صحاريها وقفارها، ورملها وأحجارها، لأتفحصها كما يتفحص الجيولوجيون الأراضي البكر.
كيف يفكر هؤلاء؟ لا أعرف… هل لهم علاقة بالسياسة، أو حتى بجيرانها؟ لا ورب الكعبة… كل ما يربطهم بالسياسة أنهم كانوا وزراء سابقين، فقط، وهذه جاءت بالحظ وعلاقات القربى والنسب لا الكفاءة.
فيا حبيبنا المستشار، كونك وزيراً سابقاً لا يعني أنك سياسي بارع وفارس فارع، فللسياسة رجالها وفرسانها الذين يداعبون السيف في ميدانها كما يفعل ابن الطفيل، ويصوبون السهم كما يفعل ابن أبي وقاص… يا حبيبنا المستشار، كل ما يربطك بالسياسة هو النسب والقربى والجيرة، وهذه لا تشفع، تماماً كعلاقتي بالإبل، فكوني ابن قبيلة ترعى الإبل لا يعني أنني أعرف الإبل، طيّبها ورديّها، حسنها وقبيحها، “مجهمها ومغترها”، كما يصنّفها البدو. وكنت في مناسبة برّية، فطلب مضيفنا من راعي الإبل أن تُعرَض أمام “ضيفنا الوشيحي”، وجيء بتلك الناقة، وسألني عنها أمام بقية المعازيم: “ما رأيك في جمالها؟”، ولأن الأمر يتطلب المجاملة فقد تغزلت بها، وقلت فيها كل ما أحفظه من شعر عن الجمال والبهاء، بيت شعر واحد فقط غاب عني تلك الليلة: “إن العيون التي في طرفها حورٌ / قتلننا ثم لم يحيين قتلانا”، نثرتُ عليها كلمات المديح والغزل حتى تساقط الحضور على الأرض لشدة الضحك، ولم أكتشف سر ضحكاتهم إلا بعد أن عرفت أن هذه الناقة ليست إلا “فحل الإبل”، بل من أطيب الفحول وأشهرها، وهو بعير يشار إليه ببنان الدهشة! فما كان مني إلا أن تشككت في سلوكه، وطلبت إحالته إلى لجنة الظواهر السلبية، لكنني بعد هذه الفضيحة تعلمت كيف أميز بين البعير والناقة.
لذا أجزم أن نسبي وصلات القربى التي تربطني بأهل الإبل لا تسمح لي بأن أكون مستشاراً في عالم الإبل، وأجزم قبل ذلك أن مستشاري أصحاب القرار أكثر جهلاً في السياسة مني في الإبل، وإلا فما تفسير “بالونهم” الذي أطلقوه عن “احتمالية حل البرلمان في حال تم استجواب وزير المالية”؟ إذا كانوا يريدون تخويف الأغلبية فإنهم بذلك أرعبوا الأقلية. فالأغلبية وأنصارها ينظرون إلى حل البرلمان وعدمه بنفس سعر الصرف، بل إن بعضهم يتمنى حله كي يتسنى للشعب تنظيف بشرة البرلمان من بعض الندوب، بالتقشير المريح.
خذوها مني، أيها المستشارون العباقرة، ستعود الأغلبية إلى البرلمان بأعداد أكبر، وسيتضاءل عدد الأقلية، وستتناثر شظايا بعض نواب الأقلية لشدة السقوط. وأظن أن الأغلبية هي التي يجب أن تخيفكم بحل البرلمان لا العكس. فكروا بهذه الجزئية.
لكن السؤال هو: “لمَ لم يُطلقوا مثل هذا البالون عند استجواب رئيس الحكومة أو وزير الإعلام، وهما من أبناء الأسرة الحاكمة؟ لم أطلقوا بالونهم بعد التلويح باستجواب وزير المالية؟”، والجواب برأيي من جزئين، الأول، خوف الحكومة ومَن وراءها من كشف بعض الملفات المؤلمة رغم إعلان النائب البراك موافقته على سرية الجلسة نظراً لخطورة المعلومات وحساسيتها، والجزء الثاني، هو إدراك الحكومة ومَن وراءها أن استجواب البراك جدّي لا يحتمل الهزل، في حين أن استجوابَي عاشور والقلاف، خصوصاً الأخير، يندرجان تحت “باب التسالي” إلى جانب الألغاز والنكت والكلمات المتقاطعة.