بعد سنوات قليلة من ولادتي، قابل والدي شخصا غريبا، وكان جديدا على منطقتنا. ومنذ اليوم الأول أعجب والدي به كثيرا، ولم يمر وقت طويل قبل ان يدعوه الى بيتنا ليعيش معنا لفترة ما، لكن اقامته طالت بيننا كثيرا وأصبح فردا من الأسرة بعد ان تقبله الجميع بترحاب شديد.
كان والدي من أشد المتمسكين بأهداب الفضيلة والخلق، وتعلمت منه طاعة من هو أكبر مني. كما علمتني والدتي الفرق بين الخير والشر وأصول التعامل والأدب في الحديث، لكن ذلك الغريب كان شيئا آخر، فقد كان يتصرف بالطريقة التي تروق له بلا تردد. كما كان مصدرا لا ينتهي من القصص والخيال والمغامرات والمتعة والابتسامة. وعندما كنت أود معرفة شيء عن السياسة أو التاريخ أو العلم، فإنه كان يعرف ما حدث في الماضي، وما يحدث في الحاضر، بل أيضا التنبؤ أحيانا بما سيحدث في المستقبل. وكان بمقدور هذا الضيف الغريب اصطحاب عائلتي لحضور مباريات كرة قدم أو الكريكت، وكان يضحكني كثيرا ويجعلني أحيانا أخرى أبكي بمرارة، ولم يكن يتوقف عن الحديث، لكن والدي لم يكن يكترث كثيرا لذلك. وكانت أمنا تتسلل أحيانا الى المطبخ بخفة وهدوء لتختلي بنفسها أثناء حديثه مخافة ان نطلب منها عدم اصدار صوت يقطع علينا أفكارنا ونحن نستمع له، ولا أدري ان كانت تصلي في المطبخ من أجل ان يترك ذلك الضيف بيتنا بعد ان طال مكوثه!
كان والدي يحكمنا بقوانينه وتعليماته التي كانت تحظر علينا التلفظ بأي ألفاظ نابية، ولكن لم يكن يعترض كثيرا على سماع الشيء ذاته من ذلك الغريب، وكثيرا ما احمر وجه أمي وهي تستمع لتلك الكلمة النابية التي كانت تعتصر قلب والدي كمدا لسماعها، والتي كان وقوعها على مسامعنا مصدر ازعاج كبير لنا، ولكن والدي لم يكن يبدي الكثير من الاكتراث بهذا الأمر بعدها بسنوات!
كان والدي يمنع تناول المسكرات في بيتنا، ولكن ذلك الضيف الذي طال مكوثه، لم يكن يكتفي بعدم الاكتراث بتعليمات أبي، بل كان يشجعنا على تناولها بطريقة غير مباشرة، كما كان يجعل من تدخين السجائر أمرا يدل على النضج. وكانت أحاديثه عن القضايا الجنسية شبه حرة ومن دون أي قيود مشددة، وكانت تعليقاته تبدو أحيانا مباشرة، وأخرى ملمحة، وغالبا مثيرة للحرج.
انني أعرف الآن، بعد ان تقدم بي العمر، ان مفاهيمي المبكرة عن العلاقة بالطرف، أو الجنس الآخر قد تكونت بتأثير حديث ذلك الغريب، وقد تحدى ذلك الغريب، المرة تلو الأخرى، مفاهيم التربية التي آمن بها والدي، لكنه نادرا ما كان يطلب منه الصمت أو التوقف عن الحديث في تلك المواضيع، ولم يطلب منه قط ان يترك منزلنا ويغادره الى الأبد.
لقد مر الآن خمسون عاما على قدوم ذلك الضيف، وقد أصبح جزءا منا، لكنه توقف ان يكون بمثل جاذبيته السابقة التي كان يصعب عدم الالتفات إليها. ولو ذهبت لمخدع والدي اليوم لوجدته قابعا في احدى الزوايا بانتظار ان يطلب منه الحديث او ان ينظر الى ما لديه من صور.
ضيفنا هذا هو التلفزيون وقد تزوج قبل سنوات قليلة، وزوجته هي الكمبيوتر!
ترجم بتصرف من واقع النصوص الموجودة لدى زوجة التلفزيون!
أحمد الصراف