عن الشعر سأتحدث معك إلى السابعة صباحا من العام المقبل، سل ما بدالك بعدما تمدّني بالقهوة وبالسجائر. قال: شاعرك المعاصر المفضل؟ قلت: كثر، شعبيا يبرز اسم ضيدان بن قضعان، وليس لصلة القرابة علاقة في تمجيدي لشعره، ولست وحدي من يمجد شعره، انظر إلى الصالة والجمهور الواقف خلف الجمهور الجالس، وانظر لتصفيق الكبار والصغار لهذا الصعلوك. هذا الشاعر يحلق بخيال مجنون. خذ درّته الخالدة، قصيدة «نسناس الشمال» وتمعن في تركيبة الأبيات والسبك والحبك والانتقال السلس من فكرة إلى أخرى والإبداع في التصوير البلاغي رغم تعليمه المحدود: «يا وجودي كل ما هب نسناس الشمال، وجْد من حدّه زمانه على اللي ما يبيه / ويا وجودي كل ما اضحيت ثم مال الظلال، لا غفت عيني ولا ذقت شي (ن) مشتهيه…»، إلى أن يصل القمة في شاعريته ويقول: « لو بقى للهيل صبر(ن) على فوح الدلال، ما بقى للقلب صبر(ن) على شي(ن) يجيه / كنت أحسب ان الغلا زال واثره لا يزال، في الحشا ما كنّه إلا دخيل(ن) في الوجيه…»، مثل هذا الشعر يا صاحبي يسبب الآلام للأكف التي لن تتوقف عن التصفيق. لله در هذا الشعر ما أعظمه.
كذلك الشاعر الكبير محمد الخس المطيري الذي أسماه الملك عبد العزيز «البستان»، وأسماه الآخرون «البحر»، وأسميه أنا «شاعر الجزيرة»، وإن كان يستحق لقب «شاعر العرب الأول»، فهو من أعظم الشعراء المعاصرين إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق. شاعر لا مشكلة لديه في تطويع الحروف واللعب بها كما يلعب بمسباحه في يده، ومهما كانت القافية صعبة إلا أن حروفها تبرك على ركبها أمام هذا الكبير بانتظار إشارة منه لتنهمر بلا انقطاع، فهو السيد والأحرف العبيد. كم بيتا من الشعر يرضيك من محمد الخس، مئة بيت؟ تستاهل. تريد مئتين؟ خذها، وبشرط أنك لن تجد أي ترهل أو ارتخاء في القصيدة من أولها إلى آخرها! هو شاعر يدفعك للظن بأن حروف اللغة العربية سبعمئة وثمانية وخمسون حرفا في أسوأ الأحوال، وقد تزيد في لحظات التجلي.
كذلك الشاعر سعد بن جدلان الأكلبي، وهو سعودي من أهل الجنوب، أظنه من أهل «بيشة»، لو كان عاصر امرؤ القيس لسحب منه الأضواء والرياح. هو أحد أعذب الشعراء الصعاليك في عصرنا هذا. أمي لا يقرأ ولا يكتب، لكن شعره يفرض الصمت على المكان ويدهش المثقفين. ساحر بلا شك أو عك، وصاحب مدرسة شعرية اقتدى بها المئات من شعراء المجلات والصحف.
أنا هنا أحدثك عن الشعراء الشعبيين المعاصرين، وإن سألتني عن شعر الـــــشيوخ والأمراء، فمنهم من يستحق لقب شاعر ومنهم من اشترى اللقب، لكنهم لن يصلوا إلى مكانة الملك محمد الخس والصعلوكين بن قضعان وبن جدلان.
أما شعراء الفصحى المعاصرون فعلى رأسهم يجلس العراقي الثائر أحمد مطــــر بقصيدته الخــــالـــــدة «إبليس الأول»، بخلاف لافتاته المذهلة، شفاه الله… ذلك النسر المحلق.