د. شفيق ناظم الغبرا

التنوع في الكويت… تحديات وقضايا

ما يميّز التيار الإسلامي بتفرعاته كلها في الكويت سلميته (نسبة إلى تيارات أخرى في دول عربية عدة) وقدراته التنظيمية العالية وقواعده الشعبية، كما يتميّز التيار بحرصه على قضايا عدة تتعلق بالسيادة والهوية العربية والإسلامية والوطنية وسعيه بنشاط إلى إيصال صوته. في هذا بالتحديد، فإن التيار جزء أساسي من الصورة الوطنية في الكويت، إذ إنه بالإمكان الاختلاف معه في قضايا يطرحها والاتفاق معه في قضايا أخرى يطرحها. ولكن للتيار نقاط ضعف رئيسية تعود وتساهم على المدى البعيد بتقليص نفوذه وتراجع قدراته. فما وقع مع «الإخوان» في الانتخابات الماضية كان أحد هذه الإفرازات. إن نقطة ضعف قطاع كبير من التيار الإسلامي(وليس كله أو كل أعضائه) والتي تعود وتساهم في إضعافه على المديين المتوسط والبعيد هو خوضه لمعركته الاجتماعية باتجاه إلغاء وإضعاف التنوع في الكويت. فهذا بطبيعة الحال يخيف فئات كبيرة في الكويت من قوته ومن تعاظم دوره، ويجعل هذه الفئات تخشى على مستقبلها من التيار. لقد حصل هذا في السابق مع تيارات عربية رئيسية، وهو يحصل اليوم وسيحصل غداً مع التيار الإسلامي إن لم يتدارك الأمر بإبداء مرونة وتسامح في طرح موضوعاته. لقد حسم التيار الإسلامي توجهه بالعمل البرلماني الديموقراطي والسلمي، ولكن آن الأوان ليحسم الشرط الثاني لنجاح الديموقراطية، أي إيمان حقيقي وصادق بالتنوع والحريات الشخصية.
فعلى سبيل المثال، طرح التيار بقوة قضية الفصل ومنع الاختلاط في التعليم العالي من دون التفات إلى رأي قطاع مهم من المجتمع الذي كان يريد ترك التعليم مفتوحاً، بحيث يتواجد التعليم المنفصل إلى جانب التعليم المشترك في جامعات مختلفة. ورغم إقرار قانون منع الاختلاط في التعليم الجامعي إلا أن الكثيرين تمنوا على التيار أن يغض النظر عن التطبيق المرن لموضوع الاختلاط، عوضاً عن إثارة ردود فعل دائمة إبان التطبيق، مما يساهم في تعقيد العملية التعليمية. كما أن الأمر يزداد خطورة من خلال عودة طرح موضوع فصل المدارس ذات المنهج الأجنبي.
كم أضاعت الكويت وقتاً في الصراع على هذا الأمر. هناك رأي في الكويت يريد تعليماً مختلطاً، وهناك رأي آخر يريده منفصلاً. فما المانع في وجود الاثنين كحل لهذه المشكلة؟ لماذا يجب أن ينتصر فريق في هذا الخلاف على حساب فريق آخر وعلى حساب التعليم؟ ولماذا التدخل في شؤون القطاع الخاص والتعليم الخاص؟ إن ما يقع يعكس رؤية سلبية تجاه الحريات الشخصية والتعليم. ونتساءل: ما هو مبرر منع الاختلاط بينما البعثات الكويتية الطلابية تذهب إلى جامعات التعليم فيها مشترك ومختلط؟ وما هو مبرر عدم الاختلاط بينما الأهالي والطلاب والطالبات يريدون هذا النمط من التعليم، وبينما هناك طلاب وطالبات وأهالي لا يريدون هذا التعليم؟ أليس هذا الموقف من قبل معارضي الاختلاط في التعليم العالي موقفاً سلبياً من التنوع؟ ألا يمكن لفهمنا الإسلامي أن يتعايش مع التعليم المختلط؟
إن هذا الوضع يخلق تساؤلات عن واقع ومستقبل الكويت. فمن الواضح أن الأولويات لدى قطاع مهم من أعضاء مجلس الأمة في إنشاء «لجنة الظواهر السلبية» في مجلس الأمة، ومواجهة الفضائيات ومواجهة الإنترنت، ومنع الاختلاط في النوادي، ومنع كل ما يمكن منعه. هكذا يتحول فهمنا الراهن للإسلام على أساس المنع والنهي والفرض.
ثم نتساءل: وهل ينفع الفرض والنهي عندما يكون المجتمع منقسماً على شأن من الشؤون، وعندما يكون للتربويين آراء مختلفة مع البرلمانيين والسياسيين؟ ولو نجح النهي والفرض لوجدناه قد أنهى المشكلات كلها بقرار. ألا يوجد تفاقم للمشكلات في المجتمعات والدول كلها التي تنحو إلى الفرض على حساب حرية الاختيار؟ بل لو درسنا الأمر بدقة وصراحة  لوجدنا  مشكلات أكثر عمقاً وصعوبة في المجتمعات التي تمارس المنع العشوائي والفصل الشامل بين الجنسين وفرض ألبسة محددة على النساء وغيرها من المظاهر التي تقوم على مبدأ الفرض والسلطة وليس مبدأ الاقتناع والحافز الذاتي. لقد تبين أن الحرية، رغم مجيء مظاهر سلبية معها، أفضل الطرق لضمان الوسطية والأخلاق على المديين البعيد والمتوسط في نفسية معظم الناس، وتبين أيضاً أن القمع والفرض يخلقان من المظاهر السلبية اضعافها، لأنهما يخلقان تطرفاً سريعاً حتى في الفئات الوسطية التي تحتاج إلى الحرية لتصل وسطيتها. إن كثرة الانشغال بالأقلية المختلفة عن الغالبية يخلق ردود فعل مساوية لها من الرفض وعدم التقبل والتمرد. وأتساءل: لماذا لا نركز على الظواهر الإيجابية انطلاقاً من أن كثرة الإيجابيات تذيب السلبيات؟ لماذا لا ننشئ لجنة تقدر الإنجاز والنجاح، عوضاً عن البحث عن الفشل والقصور في كل شيء؟ وماذا عن وجود أولويات وطنية يجمع عليها الجميع: المخدرات، على سبيل المثال، قضية كبيرة يجمع عليها الإسلامي وغير الإسلامي، فلماذا لا يكون التركيز عليها؟ لماذا لا يكون هناك تركيز على وضع التعليم في الكويت بما يسمح له بالانتقال من حالته الراهنة المؤسفة القائمة على الحفظ الى حال متقدمة؟ لماذا لا يكون هناك تركيز على الخدمات والصحة والنوعية والاستثمار في العنصر البشري؟ بمعنى آخر ألا توجد في الكويت أمور يمكن أن نتفق عليها بعيداً عن الأيديولوجية والفرز السياسي والطائفي والقبلي والأسري مما يعود بالنفع على البلاد؟
الواضح الآن أن الجميع قد تخندق في موقعه في الكويت. كل فريق يرى العالم بأعين خاصة به، وكل فريق يسعى إلى فرض رؤيته على الكويت كلها. الليبراليون ليسوا مختلفين عن الإسلاميين، فهم أيضاً يرون العالم من رؤيتهم ويريدون رؤية المجتمع وقد سار في درب فكرهم. ولكن ماذا عن كويت فيها كل شيء، فيها ما يريد كل مواطن، وفيها حقوق لكل فرد، فإن أراد تعليماً مختلطاً وجده، وإن أراد تعليماً دينياً وجده، وإن أراد محطة تلفزيونية دينية وجدها، وإن أراد الاشتراك بمسابقات لفريق «المستقبل» أو «إل بي سي» اشترك بها من دون موانع؟ فما المانع من هذا كله، بينما تتقدم دول محيطة بنا في مجال المؤسسات والخدمات والسياحة والاقتصاد والتنوع؟ وهل اكتشفنا أن الدول المحيطة التي تسمح بأكثر مما تمنع، والتي تحترم الحريات الشخصية بأكثر مما تحد منها هي أقل إسلامية منا في الكويت؟ وهل مثلاً الأخلاق العامة في تلك الدول أقل من تلك الموجودة في الكويت؟ ثم نتساءل: ما هو مقياس الإسلامية: التقدم، الإنجاز، العلم. العدالة، مواجهة الفساد، الثقافة، أم أنه مظاهر عدم الاختلاط، ومنع التعليم المختلط؟ من هو الأكثر إسلامية أفغانستان أم الإمارات، قطر أم إيران، عمان أم الكويت؟ ثم نتساءل: وهل الإسلامية مجال للتباري بين دول أم أن جوهر الإسلام عبادة وقناعة عند الفرد أن قبل يكون قرار دول تؤكد كلها أنها إسلامية على اختلاف قوانينها وأنظمتها وظروفها؟
إن التنوع واحترامه هو أساس التنمية، وكل مجتمع يسعى إلى إغلاق باب التنوع سوف يفقد مع الوقت أفضل كفاءاته وأهم عقوله، كما أنه سيتراجع أمام مد التنوع الذي يسود العالم. إن قانون التنوع والتنمية أساسي، فمن لا ينتبه إلى هذه الحقيقة سوف يكتشف كم ستتقدم المجتمعات التي تعتمد التنوع نسبة إلى المجتمعات التي تحاربه. بل إن التنوع هو أساس الديموقراطية وقاعدتها الصلبة. وللتنوع ثمن أساسه النضج السياسي الذي يصل إلى نتيجة، مفادها أن وجود الشيء لا يعني الموافقة عليه، ووجود ظاهرة تلبي متطلبات فريق من الناس مهما قل عددهم لا يعني الموافقة عليها. في الكويت هناك حرب خفية وعلنية على التنوع وأصحاب الآراء المختلفة وعلى ما هو مختلف من دون معرفة بأسبابه الحقيقية، وهذا يؤدي إلى تفاعل القضايا وتعمق المشكلات وزيادة الأزمات وفقدان البلاد لأساسها القديم. لقد نجحت الكويت في أن تكون عروس الخليج، نظراً إلى تنوعها وتاريخ ديموقراطيتها، ومع فقدان هذا التنوع تفقد مناعتها وحصنها المتين. إن شعار الكويت مركز مالي وتجاري لن يكون ممكناً بلا تنوع صادق وحقيقي على الصعد كلها؟ إن الإسلاميين مطالبون بمراجعة للموضوعات والأطروحات. أعرف جيداً أن هذا التيار متحوّل ومتغيّر ولديه قابلية كبيرة على إعادة بناء توجهاته، ولكن هذا يتطلب موقفاً شجاعاً ومتسامحاً تجاه التنوع والاختلاف.

 

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

د. شفيق ناظم الغبرا

أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
twitter: @shafeeqghabra

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *