محمد الوشيحي

حابس حابس

في القاهرة، وقبل الغزو الصدامي للكويت، ارتديت أجمل بذلة عندي، واستعنت بصديق لمساعدتي في ترتيب ربطة العنق، في وقت كنت أغني فيه «وحشتوني» للمشط الذي أنستني العسكرية شكله بعدما حوّلت رأسي إلى أرض قاحلة جرداء. توجهت بعد ذلك للحفل الذي تقيمه السفارة الكويتية بمناسبة عيد الاستقلال، لكن الأقدار ساقتني إلى السجن بعد تجاوزي الإشارة الحمراء، نتج عن ذلك «سوء تفاهم» بيني وبين الشرطي أدى إلى كدمات في إحدى عينيه.
هناك في «تخشيبة قسم الأزبكية»، أو في «نظارة القسم»، جلست بانتظار وصول الملحق العسكري الكويتي لإنقاذي، في الوقت الذي كان يتناوب فيه بعض «أمناء الشرطة» المرور علينا في التخشيبة والتساؤل بصيغة التهديد: «فين اللي عامل فتوة»؟ فيشير صاحبه باصبعه لي: «أهوه ابن الـ(…)»، وعرفت بعد ذلك أنهم، وتعاطفا مع زميلهم، ينتظرون عادة إلى ما بعد منتصف الليل ليأخذوا السجين المطلوب للغرفة المجاورة في نزهة تفقده بعض الشحم الزائد في جسمه.
هناك، في أقصى التخشيبة التي تضم نحو ثلاثين من الأخوة المجرمين الأفاضل، كانت هيئة أحدهم واضحة للعيان: ساحر أو مشعوذ. لحيته الطويلة، المسبحة، شعره المنفوش، مظهره العام، تقاطيع وجهه تدفعني لتصديقه مباشرة لو ادعى بأنه لم يجرِ أي عملية تجميل. ناداني بطريقة السحرة في مط الحروف: «انت يا اللي قاعد هنااااااك ولابس ملووووكي تعااااالى هناااااا»، فرددت عليه بأدب وبنفس طريقته في الحديث: «امشييييي يلعن أبو أمك وأعمااااامك الكرااااام»، فهاج المشعوذ وماج، وارتفع صراخ السجناء محذرين: «ده مصاحب جن وحيسخطك»، فصرخت في وجوههم: «إن شاء الله يصاحب نادية لطفي، يروح يصاحبها في نيودلهي بعيدا عن نخاعي الشوكي». قلت لهم ذلك قبل أن أوجه حديثي له: «لولا أننا في سجن محترم لسخطت جزمتي في فمك، هل التبس عليك الأمر فظننتني عجوزا بملاية لف يا ابن الدجالة لتضحك عليها»؟ ولولا تدخل الشرطة، بعد الوقت المناسب بكثير، لذكرَ أهلي وأصحابي محاسني بعدما نقلني أفراد الشرطة للمستشفى إثر تعرضي لهجوم من بعض السجناء نصرة للمشعوذ وخوفا من أن يسخطهم، كما جاء في أقوالهم بعد ذلك.
وكثيرا ما تصلني رسائل من نساء يتحدثن عن محاولات الدجالين الاعتداء عليهن، وكنت بدوري أطلب منهن، بعد تهنئتهن على غبائهن الباهر، التوجه للزميل الدكتور محمد العوضي باعتباره «المختص بكشف مثل هذه الأمور والحركات»… وقبل فترة، حدثتني إحداهن عن المشعوذ «منير عرب» الذي يزور الكويت مرات عدة «لمعالجة» المسحورين، فيجمع النساء ويغلق الباب، وبالتناوب، يجلس على رجلي كل واحدة منهن، ويضع فمه بالقرب من أذنها ليهمس لها بكلمات لا تصلح للنشر، فإن وافقت على الذهاب إلى الغرفة الثانية فخير وبركة، وإن لم توافق ضرب رأسها بالجدار بقوة لتفقد الوعي، باعتبارها مسحورة! في حين كادت سيدة أخرى تقتلني من شدة الضحك لحماستها وهي تثني على «بو طلال» (مشعوذ كويتي) الذي ما أن انتهى من قراءة تراتيله على مجموعة من النساء حتى دبّ الخلاف بين اثنتين منهن، ووقفتا لتتعاركا، هذه مسكونة بجنيّ يهودي، وتلك مسكونة بجنيّ مسيحي، وهات يا شتائم: «أنتم أحفاد القردة»، و«أنتم قتلة الأنبياء»… حوار حضارات.
ويبدو أن «الطلب» في سوق الدجل الكويتي يفوق «العرض»، ولهذا لم تكتفِ نساؤنا بالمتوافر من المشعوذين، فاستعنّ بمحترفين أجانب من أمثال «منير عرب» وغيره… و«حابس حابس يكفينا شر المِلابس»، على رأي الشيخة معالي زايد.
شاهدوا الكاميرا الخفية مع أحد المشعوذين على هذا الرابط:
http://youtube.com/watch?v=GiufggQCKlQ

 

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *