محمد الوشيحي

تكفون يا عيال

عام 98، إن لم تخني الذاكرة، كان آخر تهديد عسكري فعلي من صدام حسين للكويت، وبعد هذا التاريخ انشغل صدام في نفسه وكرسيّه وترك الكويت… حينذاك تقدمت الفرق العسكرية الصدامية واحتلت مواقعها الهجومية، فتقدمت القوات الكويتية واحتلت مواقعها الدفاعية. كنا الأحدث أسلحة والأقوى نيرانا والأفضل تدريبا، أما من ناحية العدد البشري فكما يعلم الجميع، لا مقارنة لنا بهم، كانوا أضعاف أضعافنا، لكن المسألة بالنسبة لنا مسألة «بقاء أو فناء بلدنا»، وبالنسبة لهم مجرد مغامرة لرئيسهم من بين عشرات المغامرات.
ولو كنت أعرف رقم موبايل صدام يومذاك لبعثت له برسالة شكر على إتاحته الفرصة لمعادننا بالظهور على حقيقتها الناصعة، فقد تدفق الآلاف من المتطوعين من كل الشرائح والأعمار بصورة أذهلتنا نحن العسكريين، كان تزاحما ما بعده تزاحم، شباب ومسنّون، سنة وشيعة، حضر وبدو، الكتف بالكتف، يتسابقون للصعود في حافلات نقل الجنود المتجهة إلى الجبهة. وهنا، أتذكر موقفا غاية في الغرابة، عندما صدرت الأوامر «من جهات عليا»، كما قيل لنا يومها، بأن يتقدم أبناء الأسرة الحاكمة للخطوط الأمامية مباشرة ومن دون «جرعات التدريب»، وهو ما تم بالفعل.
كان يوما مشهودا تتنافس فيه المرجلة مع التضحية، يوما لا يمكن أن ينساه كل من شهده… ومن المواقف الراسخة في ذاكرتي، موقف ذاك المسن الذي دخل المعسكر، من ضمن من دخلوا، مرددا وهو يتكئ على عصاه: «عطوني سلاح عطوني سلاح»، فتقدم إليه أحد الزملاء الضباط وشكره لتطوعه وطلب منه العودة لمنزله وإفساح المجال للشباب، فغضب الشايب وحاول إقناع الزميل بقدرته على حمل السلاح، لكن طلبه قوبل بالرفض المؤدب، فصرخ بمرارة: «تكفون يا عيال»، ولا فائدة، فوبّخ الجميع وشتمنا ثم استجدانا واستخدم كل وسائل الإقناع، وأيضا لا فائدة، فأطرق وانهمرت الدموع من عينيه وهو يرى الحافلات، الواحدة تلو الأخرى، تتحرك من دونه، ثم تنحى جانبا وأسند ظهره على جدار وهو يقف متكئاً على عصاه، وبدأ بالغناء الحماسي بصوت يشعل النار في الرؤوس ويحرق الدماء، ولا أدري كيف تركتُ كل ما كان يشغلني حينها، وما أكثره، واستمعت له بإنصات، بل وأمعنت النظر فيه وهو يمسح دموع القهر ويغني بصوت رعدي. أتذكر اللحظة تلك جيدا وأتذكر مضمون غنائه، كان يغني طالبا من معشوقته، بعد أن امتدح جمالها، أن تفاخر بين العذارى بأن حبيبها باع نفسه من دونها (بالطبع، معشوقته هي ديرته، كما يتضح من القصيدة)… لا شعوريا، تقدمت منه وحدثته بطريقة يفهمها: «أقسم بعظمة الله يا عم، لو لم أكن متزوجا لتقدمت لخطبة ابنتك أو حفيدتك، إن كان لك بنات وحفيدات، لكن أرجوك توقف عن الغناء فما فينا من الحماسة يكفينا»، فأومأ بعصاه طالبا مني الابتعاد، فابتعدت بالفعل وركبت الحافلة، وتحركنا تحت نظرات الأسد المسن ونحن نتغنى بقصيدته وبلحنه الذي استخدمه، قبل أن نشرح مفرداتها لمن لم يفهمها… لله دره، ذاك الظفيري، أو بالأصح، ذاك الكويتي.
***
شر البلية ما يضحك… بعد انتهائي من كتابة هذا المقال، جاءني اتصال من الناشط البيئي الأخ فهد سعد الحويلة يتمنى عليّ أن أكتب محذرا وزير التجارة ومدير عام الهيئة العامة للصناعة من مغبة توزيع الأربع عشرة قسيمة صناعية جديدة في منطقة الشعيبة الغربية قبل تطبيق الشروط البيئية عليها، وهو ما سيزيد التلوث الحالي تلوثا! يقول الأخ فهد بأنه خاطب النواب فخذلوه، لكنهم كلهم «كوم» وخالد العدوة «كوم» آخر، إذ جاء رد العدوة على الحويلة مباشراً وصريحاً: «أنت تعلم يا ابن عمي بأن قبيلة بني هاجر (القبيلة التي ينتمي لها وزير التجارة) ترتبط مع العجمان بحلف وعهد، منذ العصور السابقة، وهذا الحلف يفرض على كل من القبيلتين عدم التعرض للأخرى، فكيف تطلب مني انتقاد الهاجري»؟! بصراحة منطق العدوة مقنع «تأكل أصابعك وراه». وسأذكّر العدوة بأن الأخ خالد الطاحوس، بحسب هذا المنطق، سبق وأن كسرَ الحلف عندما هاجم الوزير الهاجري قبل أشهر، ولذا فالطاحوس يستحق النفي من القبيلة بعد أن نقطع يديه ورجليه من خلاف ونفقأ عينيه ليكون عبرة لغيره، ثم نصادر أملاكه ونتقاسمها بيننا (عنده بذلة على كيف كيفك، بيضاء تجهر العين ومقلمة بخطوط زرقاء)، أما فهد الحويلة فأقترح أن يُقتل رجما وخنقا بالغازات السامة التي لطالما اعترض على انتشارها! الرجم جزاؤه لكسره الحلف وانتقاده الوزير الهاجري، أما الخنق فلتوصيله المعلومة لي ولموافقته على ذكر اسمه كمصدر للمعلومة.
ويبدو أن ذاكرة خالد العدوة التي أسعفته لاجترار «حلف قديم مضى عليه نحو ثلاثمئة سنة» والحرص على البرّ به، لم تسعفه لتذكّر قسمه الدستوري بأن «يرعى مصالح الدولة»، أكرر: «مصالح الدولة»… و«يقولون لي سيبو تلاقي بديلو جم، وقلبي يقول لي لا تسيبو ترى تندم».

 

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *