د. أحمد الخطيب

الكويت من الإمارة إلى الدولة (13)

مرض عبدالله السالم ووفاته

انقلاب عارف

عندما أطاح عبدالسلام عارف، بالتحالف مع البعث، حُكمَ عبدالكريم قاسم عام 1963 استبشرنا خيراً. وعندما أعلنت التشكيلة الوزارية كان فيها نحو ستة وزراء كانوا زملاء لي في جمعية العروة الوثقى في بيروت، فقررت الذهاب إلى بغداد لتهنئتهم، وأثناء حفلة عشاء أقيمت على شرفي من قبل هؤلاء الأصدقاء، أسرّ لي أحدهم بأن علي صالح السعدي موجود في المطعم وهو يرغب في التعرّف إليّ. أنا لا أعرفه شخصياً ولكنني أعلم أنه الشخصية الأولى في الحكم الجديد، فقلت: أهلاً به.
انضم إلينا على مائدة العشاء وصرنا نتحدث عن همومنا القومية وكان جالساً بقربي، فقلت له: لماذا لا تنهون مشكلتكم معنا وتعترفون بالكويت، فقال: أنتم لستم دولة مستقلة، فأنتم حسب وثيقة الاستقلال لا تزالون تحت الحماية البريطانية، ونحن مستعدون للاعتراف بالكويت حالما تلغون هذه الحماية، وليست هناك شروط أخرى.

رجعت إلى الكويت وحضرت حفلة عشاء في اليوم نفسه أقيمت بقصر دسمان لأحد ضيوف الكويت – لا أذكر من هو – وكان الشيخ سعد العبدالله جالساً بقربي فأخبرته بما حصل، وفي اليوم التالي عندما كنت مداوماً في العيادة صباحاً اتصل بي الشيخ سعد العبدالله قائلاً إن عبدالله السالم يريد أن يراك الآن. غادرت العيادة وذهبت إليه في مكتبه بقصر السيف، وكان سعد العبدالله واقفاً وراءه كالعادة، فبادرني قائلاً: أنا ما خليت أحداً ممن له علاقة بالعراق ما طلبت منه أن يتصل بالحكم الجديد لأعرف موقفهم منا، وأنت تروح إلى بغداد وتشوفهم ولا تخبرني. فقلت له إنني حالما رجعت أخبرت الشيخ سعد العبدالله بذلك. فقال: شنهو سعد العبدالله، أنا الذي كان لازم تتصل به وتخبرني بالذي دار من كلام هناك. قلت: ما صار إلا الخير. ونقلت له بالتفصيل ما دار بيني وبين علي صالح السعدي، فقال لي: من يحمينا من العراق لو ألغيت الحماية؟ فقلت له إن لبريطانيا مصالح كبيرة في الكويت، فهي سوف تتدخل سواء كانت هناك معاهدة حماية أو لا، بسبب مصالحهم الحيوية في الكويت. وثانياً، الكويت دولة مستقلة وميثاق هيئة الأمم يسمح لكل دولة عضو تتعرض لخطر الاعتداء طلب المساعدة من أي كان، وها هو نهرو أحد زعماء دول عدم الانحياز يطلب المساعدة من أمريكا عندما تعرض لاعتداء من الصين ولم يلمه أحد على ذلك.
ثالثاً، أنا لا أقول بأن المطلوب أن نلغي معاهدة الحماية بالأناشيد الوطنية الحماسية وغيرها، إنما تستدعي السفير البريطاني وتخطره بالخطوة المطلوبة، وهي في مصلحة الكويت واستقرارها ولن يؤثر ذلك في علاقة الصداقة بين البلدين. فاقتنع بوجهة نظري.
رأيت أن مهمتي انتهت، فأنا لا أحمل صفة رسمية غير كوني عضواً في مجلس الأمة. وإذا اعتقد عبدالله السالم أنني سأكون مفيداً في هذه القضية فيمكنه أن يكلّفني بمواصلة هذه المهمة. والحقيقة أنني لم أعرف ما الذي قام به عبدالله السالم بعد هذه المقابلة.
كان موضوع الخلاف بين الكويت والعراق يعرض في مجلس الأمن بصورة دورية، وبعد هذه المقابلة مع الشيخ عبدالله السالم بأسبوعين تقريباً جاء دور نقاش الموضوع، فما كان من مندوب العراق الدائم في الأمم المتحدة إلا أن أخرج الورقة المعهودة التي عنده من زمان ليعيد قراءتها كالعادة، فهو لم يتلق أية تعليمات جديدة من حكومته، وحكومته تنتظر من الكويت رداً على اقتراحها وهذا لم يحدث.
بعدها أخبرني نصف اليوسف النصف أن عبدالله السالم قال له: إن الدكتور أحمد كاد أن يورطني في إلغاء اتفاقية الحماية! شرحت له القصة ضاحكاً على هذه النكتة قائلاً: الله يسامحه.
قبل وفاته – رحمه الله – ببضعة أيام، وكنت ملازماً له في قصر الشعب طوال فترة مرضه مما سيأتي ذكره لاحقاً، قال: يا أحمد، أنا متفق معكم في كل شيء ما عدا موضوعين، الأول هو موضوع العراق، أنا لا أريد أن يربطني أي شيء بالعراق لا ماء ولا كهرباء ولا سكة حديد والموضوع الثاني هو التعدي على حقوق الديانات الأخرى. كلامه هذا عن العراق جعلني أتذكر لماذا أوعز إلى المجلس الأعلى برفض مشروع الماء من شط العرب في الخمسينيات، ولماذا لم يتابع اقتراح علي صالح السعدي بإلغاء معاهدة الحماية مقابل اعتراف العراق بالكويت.
ومع ذلك وأخذاً بالحسبان لموقف عبدالله السالم، فقد تم إلغاء المعاهدة في عهد صباح السالم، وسجلت كمأثرة من مآثره مع أن السبب كان قرار بريطانيا بالانسحاب لأنها لم تعد دولة عظمى.
جرت لاحقاً اتصالات سرية عبر أطراف كثيرة مع العراق لن أذكرها لأنني لم أكن طرفاً فيها. وفي كتاب «صباح السالم» تفاصيل كثيرة عنها، مع أن بعضها غير دقيق والكتاب بمجمله يعطي الشيخ صباح السالم دوراً مبالغاً فيه جداً في رسم سياسة الكويت الخارجية، التي وضع أسسها الكويتيون الأوائل. فعبدالله السالم كلف جاسم القطامي، وكان أول وكيل لوزارة الخارجية بالاتصال بحكومة عبدالكريم قاسم، بعد أن طلب منه أن لا يخبر بذلك أحداً، حتى صباح السالم نفسه، وقد التزم أبو محمد ذلك وبصرامة تامة حتى إنه أخفى ذلك عني ولم أعرف بذلك إلا مؤخراً بعد أن أثير هذا الموضوع في الصحف.
تمخّضت هذه الاتصالات عن اعتراف العراق بالكويت مقابل ثلاثين مليون دينار كويتي. تمّ ذلك عند بدء معركة حزب البعث ضد جمال عبدالناصر والقوى القومية الأخرى، وهو ما رأيناه رشوة مهينة للشعب العراقي والشعب الكويتي، وانحيازاً من الكويت إلى طرف دون آخر، مما جعلنا نعارض هذه الصفقة لمّا عرضت علينا في المجلس. وبالطبع فإن المجلس وافق على تلك الاتفاقية معتقدين أن مشكلة الكويت مع العراق قد حُلَّت، وقد أثبتت الأيام حكمة موقفنا. وفي الجزء الثاني سوف أذكر كيف أننا ساهمنا بالتعاون مع الشيخ جابر الأحمد رئيس الوزراء آنذاك في التوصل إلى حل نهائي لهذا الموضوع دون التنازل عن شبر واحد من الأراضي الكويتية عام 1973 ومن قام بنسف هذا الاتفاق!

البعث العراقي وحركة القوميين العرب في الكويت

عندما تمكن حزب البعث من الحكم في العراق، وبعد أن اشتد الصراع بينه وبين الفئات القومية بسبب الموقف من الوحدة وجمال عبدالناصر، تعرضت الفئات القومية بالعراق لحملة اعتقالات واسعة. ونتيجة لذلك خسرت حركة القوميين العرب الكثير من قيادييها هناك، فكان لا بد من إرسال عناصر قيادية حركية من خارج العراق للمساعدة.
ففي الكويت تم الاتفاق على إرسال ثلاثة هم علي الرضوان، وكان يحتل منصب الأمين العام لمجلس الأمة، وكل من عبدالعالي ناصر وسليمان العسكري وكانا يدرسان في القاهرة في سنتهما الأخيرة في الجامعة.
استقال علي الرضوان من أمانة المجلس، وترك كل من عبدالعالي ناصر وسليمان العسكري الجامعة، واتجهوا جميعهم إلى بغداد حيث كانت قيادة العمل الحزبي، وتسلموا مهماتهم الحزبية مباشرة تحت أسماء مستعارة.
كذلك تشكلت في الكويت قيادة مساندة لهم يترأسها عبدالمحسن الدويسان الذي كان يعمل في وزارة الخارجية. ومن الطريف في الموضوع أن عبدالمحسن الدويسان كُلِّف بمهمة سرية وشفوية لإيصالها إلى القيادة – قيادة حركة القوميين العرب – في العراق، فذهب إلى العراق وكان معروفاً عن عبدالمحسن الدويسان كونه ناشطاً قومياً في الكويت، مما تسبب في استدعائه والتحقيق معه، ومعرفة سبب مجيئه إلى العراق من قِبَل أجهزة الأمن البعثية، فتذرع بكونه يعمل في الخارجية مسؤولاً عن الشؤون المالية والإدارية، ومن مهماته زيارة السفارات الكويتية في الخارج وتفقدها، وأنه ليس بالشخص الذي تتحدثون عنه لأن هناك أكثر من ثلاثة أشخاص بهذا الاسم، وقد انطلت عليهم الحيلة وقام بإيصال المعلومات المهمة إلى الشخص المطلوب بعد مقابلته بطريقة متفق عليها.
وبعد فترة تم القبض على كل من عبدالعالي ناصر وسليمان العسكري، وتعرضا للتعذيب الشديد بالوسائل البعثية المعروفة لمعرفة المسؤول عنهم «أبو خالد»، إذ إنهم لا يعرفون اسمه الحقيقي، واحتملوا التعذيب لمدة ثلاثة أيام بلياليها، وهي الفرصة الكافية ليعلم أبو خالد وهو علي الرضوان باعتقالهم ويدبر أمره. وقد كانت مدة كافية، إذ استطاع علي الرضوان أن يذهب إلى المطار ويسافر على متن أول طائرة غادرت بغداد، وكانت متجهة إلى بيروت. وبعد ساعات من سفره تم التعرف على هويته الحقيقية من قبل المباحث العراقية وداهمت البيت الذي كان يسكن فيه فلم تجده. ومع ذلك وبعد عودته إلى الكويت عن طريق بيروت بقي مدة قصيرة في الكويت تم من خلالها تدبير سفره مع العائلة إلى البصرة، ليواصل مهمته من هناك غير عابئ بالمخاطر المحتملة لعودته إلى العراق.
ولقد أُعجب المعتقلون العراقيون بصلابة زملائهم الكويتيين، وتحمّلهم كل أصناف العذاب مما عزز مكانة الكويتيين في الأوساط القومية في العراق. اعتقال عبدالعالي ناصر وسليمان العسكري استنفر قوانا في الطلبة والجمعيات وصحافتنا في الكويت ذات الاتجاه القومي، أما الصحف المحسوبة على الحكومة والصحافة البعثية في الكويت فإنها كانت تحرض الحكومة على محاكمتهم عند عودتهم إلى الكويت.
كذلك فقد كان لطلبتنا في مصر دور مهم في المطالبة بإطلاق سراحهم، شاركهم في ذلك معظم اتحادات الطلبة العربية وبعض الصحف المصرية.
عندها فقط تحركت الحكومة الكويتية، وكان السبب في هذا التباطؤ هو توقُّع الحكومة أن يشمل التحقيق معلومات عن نشاطات حركة القوميين العرب في الكويت، فتوفر العراق للحكومة معلومات تستفيد منها! وعندما وصل كل من عبدالعالي ناصر وسليمان العسكري إلى الكويت استقبلا كأبطال بالنسبة إلى الشارع القومي في الكويت، ولكن الحكومة كلفت النائب العام بدر العجيل – بدر الرجولة والضمير الحي – بالتحقيق معهم، فحفظ التحقيق دون أن يوجه إليهما أية تهمة، فالتضحية وتلبية النداء للعمل القومي هو شرف، وعيب أن يُعَدَّ جريمة. وقد حضر التحقيق كل من عبدالله الجابر وسعد العبدالله الذي عدّ ذهابهما إلى العراق تآمراً على الكويت، إلا أن عبدالله الجابر حسم الأمر عندما كشف عن ظهر سليمان العسكري ورأى آثار التعذيب بادية على جسمه.
هكذا كان التزام العمل القومي والاستعداد للتضحية في سبيل العقيدة، وهذا ما مثّله هؤلاء الأبطال الكويتيون مما أكد الدور التاريخي لرجالات الكويت المعروفين بنصرة القضايا القومية منذ القدم.

العلاقة مع عبدالله السالم

بعد المصالحة التي تمّت عام 1961 إثر تهديدات عبدالكريم قاسم وطلب عبدالله السالم من كل من جاسم القطامي ويعقوب الحميضي وعبدالله حسين العمل عنده، تم تعيين جاسم القطامي أول وكيل لوزارة الخارجية وتفويضه بإنشاء هذه الوزارة، وأصبحت علاقتنا بعبدالله السالم حميمة. وأذكر في مرة كنت قد ذهبت إليه في موضوع معيّن فاجأني بقوله: «ليش مازرتني من قبل لتبارك لي في مقري الجديد. صار لي ثلاثة أشهر منذ أن انتقلت إلى هذا المقر وما شفتك؟» وهو يعني المقر الجديد المجاور لقصر السيف القديم. فقلت له: «أنت رجل مشغول ولا أريد أن أثقل عليك». فقال لي: لازم تمر علي، وأنا ألاحظ أنك لا تأتي للمطار عند سفري». فقلت: «حضرت مرة أو مرتين إلى المطار ووجدت أن هناك أناساً كثيرين في المطار والواحد يضيع بينهم». فقال: «لا، أنا أول ما أخرج من الطائرة أدوّرك أنت، وهذوله اللي تشوفهم أصحاب مصالح» (وأنا أعلم بأن فيهم كثيرين يأتون لتقديرهم لإنجازات عبدالله السالم وحبهم له وليس لمصالحهم الخاصة) واستطرد قائلاً: «إذا لم تأت اعتبرت ذلك موقفاًً مني. إذا عندك شيء تعال عندي وناقشني. وقال: أنا لست مع الحكومة ضدكم ولست معكم ضد الحكومة أنا حَكَم بين الطرفين»، والحقيقة أن هذه الكلمات الطيبة جعلتني أكون أول الموجودين في المطار عند سفره أو قدومه.
أحداث الأزمة الوزارية ومجيء وزارة جابر العلي التصادمية جعلت الوضع متأزماً بيننا وبين الحكومة، وزاد التوتر مع المواجهات التي كانت تتم بين وزير التربية والتعليم خالد المسعود والطلبة، وكذلك بسبب عنجهية بعض الوزراء في تعاملهم مع النواب، فلم يكن عبدالله السالم مرتاحاً لهذا الوضع، وعبّر عن ذلك بشعر كعادته عند انتهاء مراسيم افتتاح كل دورة وقد قال البيت التالي:
تبقى الأمور بأهل الرأي ما صلحت
فإن تولت فبالأشرار تنقاد
هل كان يوجه الاتهام إلينا؟ ربما اعتقد بأننا خذلناه، فنحن رفضنا المشاركة في الوزارة ووقفنا موقفاً معارضاً وبقوة من الحكومة. ونحن تعمّدنا ذلك، لأننا أردنا أن نكسر حاجز الخوف والرهبة عند الأعضاء، كي لا يترددوا في القيام بدورهم الرقابي بحسب ما ينص عليه الدستور. كذلك فإن أول استجواب حصل في المجلس كان منا، قدمه راشد التوحيد ضد وزير الكهرباء جابر العلي الصباح، لكون راشد التوحيد يعمل مقاولاً كهربائياً، وهو مطلع على مساوئ الوزارة ولم نكن نتعمد التفرد بأفراد العائلة، إلا أنه فسر أن ذلك ينم عن موقف معادٍ للصباح مما لا يقبله عبدالله السالم.

مرض عبدالله السالم ووفاته

بدأت جلسة افتتاح الدورة الثالثة للفصل التشريعي الأول عادية، بحفل استقبال عبدالله السالم وتلاوة مرسوم بدء الدورة، والكلمات المتبادلة بين الأمير ورئيس المجلس ثم تلاوة بيان الحكومة، ولكن الجو داخل القاعة لم يكن مريحاً، فقد كانت هناك مبالغة في الإضاءة، وخصوصاً أنوار الإرسال التلفزيوني، وكذلك مبالغة في عدد الحضور، مما أثر في مفعول أجهزة التكييف، ففي بداية إلقاء الخطاب الأميري لاحظنا تململ عبدالله السالم، وقد بدأ العرق يتصبب من وجهه، ثم اختلال توازنه، مما دفع من حوله إلى مساعدته على النهوض وترك القاعة إلى «المختصر» المجاور لها. وهذا ما أثار القلق في المجلس، فأسرعت بالذهاب إليه، وكان في الجلسة أيضاً د. عبدالرزاق العدواني الذي تبعني، واتضح لنا بعد معاينته أنه يعاني من ذبحة صدرية، تأكدت لنا بعد أن قمنا بإجراء التخطيط لقلبه في الجهاز الذي أحضره د. ناظم الغبرا على عجل بعد أن وصل إلى المجلس. بدأت دقات القلب تضطرب مما أوجب التدخل السريع لإيقاف هذا الاضطراب الخطر، وتم ذلك بسرعة. كان لا بد من نقله إلى المستشفى، ولما رفض ذلك قلنا نذهب به إلى قصر الشعب، وأصر أيضاً على أن يغادر «المختصر» ماشياً إلى موكبه وهو ما لم نقبل به، فقررنا أن نزيد جرعة الدواء المسكن للألم لكي ينام. وعندها نقلناه بسيارة الإسعاف إلى الشعب، وكان نائماً وكنت أنا والدكتور عبدالرحمن العوضي معه وجلس ولده خالد عبدالله السالم في المقدمة مع السائق، وكانت رحلة عذاب لصغر سيارة الإسعاف والمسؤولية الكبيرة الملقاة علينا كأطباء مسؤولين عن سلامته.
ومع أن حجرة نومه في الشعب واسعة نوعاً ما، إلا أنها كانت متواضعة جداً في تأثيثها. وبقينا معه نحن الاثنين أنا ود. العوضي، وسمو الشيخ صباح الأحمد الصباح حتى أفاق قبيل منتصف الليل، وتفاجأ بأنه في الشعب وأن الوقت ليل، وهنا بادره الشيخ صباح الأحمد قائلاً بأن هذا تم بأوامر الأطباء.
إلا أن عبدالله السالم شكرنا وقال: لقد أتعبتم حالكم في السهر عليّ. فقلنا إن هذا واجبنا كأطباء وكأبناء له.
لاحظت نظرته إليّ وفيها شيء من التعجب أو الاستغراب، فهو كما يبدو اعتقد بأن الجفاء الذي حصل بيننا مؤخراً قد أثّر في علاقتي به، مما يعكس الحساسية الشديدة عنده، هذه الحساسية التي تعوّدت عليها كعتبه عليّ عندما كنت لا أذهب إلى المطار لتوديعه أو استقباله، واعتقاده كذلك أن حب الكويتيين لجمال عبدالناصر خفّف من حبهم له عندما تساءل عن المظاهرات التي توجهت إليه عندما طالب عبدالكريم قاسم بضم الكويت إلى العراق سائلاً عبدالعزيز حسين: هل هم معي أم ضدي؟
المهم أنني حرصت على ملازمته طوال فترة مرضه التي دامت حوالي الشهر. إمكانات العلاج في ذلك الوقت لم تكن كما هي عليه الآن، ومع ذلك رأيت من الواجب عليّ أن أقترح إرساله إلى الخارج بعد أن مرت الفترة الحرجة من مرضه، إلا أن اقتراحي رفضه سعد العبدالله، قائلاً بأن مراسيم الوداع سوف تتعبه وكأنها من الأشياء الحتمية والمقدّسة أو كانها أهم من حياة عبدالله السالم! فوصلنا إلى حل وسط بدعوة أحسن الأطباء المختصين إلى المجيء إلى الكويت لأخذ رأيهم، وهذا ما حدث، فوصل إلى الكويت ثلاثة منهم، وبعد معاينته قالوا إن العلاج الذي يأخذه هو كل ما يمكن عمله. وطلبوا مقابلة ولي العهد ليقدموا له تقريرهم. فأخذتهم إلى صباح السالم وقلت له بأن الأطباء يريدون أن يقدموا لك تقريراً عن حالة عبدالله السالم. فقال لي: لا داعي لذلك.
سألنا عبدالله السالم سؤالاً واحداً عن مرضه، وهو: هل عاش أحد بعد هذا المرض؟ فقلنا له نعم، هناك عبدالله الخليفة ونصف اليوسف. ووقتها كانت قصة الرئيس الأمريكي إيزنهاور الذي أصيب بالذبحة مرتين ومع ذلك فإنه استطاع أن يكمل ولايتين في الحكم. وشعرت بأنه ارتاح لذلك ولم يعد يسألنا عن المرض.
منعنا عنه الصحف والتلفزيون والإذاعة حتى لا ينفعل من الأخبار وصرت ألازمه حتى موعد نومه، فبعد الغداء أجلس أنا وسعد العبدالله عنده ونهمزه، أي ندلك ساقيه ، ونتناول سوالف عادية حتى ينعس.
وفي البداية أخبرني بأنه طلب من الأسرة أن يتناوبوا في إعداد الغداء لي دورياً، بدأها بأخته بيبي السالم على أن يكون دور سعد العبدالله السالم الأخير. واكتشفت محبته العميقة لأخته عندما قال لي بأنها تستأنس عندما أطلب منها أي شيء، عندما قلت له: لماذا تتعبها في ذلك؟ وكانت هي الشخص الوحيد الذي يكلمه بالتلفون طوال فترة مرضه.
كذلك تأكدت من حبه لسعد العبدالله عندما جاء دوره في الغداء سأله قبل يوم قائلاً: دورك غداً فماذا سوف تقدم؟ والغداء يحضره أفراد العائلة، فرد سعد العبدالله بقائمة عادية من الطعام، فهو لم يدرك لماذا جعله عبدالله السالم الأخير، هنا التفت إليّ عبدالله السالم قائلاً: «شوف صاحبك جعلته الأخير حتى يشوف ماذا يقدمون ليكون الأحسن وشوف كلامه، رزيته عليهم، وأعطيته الداخلية والدفاع لكن ماكو فائدة فلا تحاول معاه «. والحقيقة أنه أحرجني في ذلك فما كنت أتوقّع أن يوجه هذا الكلام إلى الشيخ سعد بحضوري، لأن ذلك سيؤثر في موقفه مني. وهكذا اكتشفت أن عبدالله السالم كان يحب ويثق بسعد العبدالله إذ إنه في أيامه الأخيرة وبعد أن انتكس ثانية وأصبح الأكل صعباً وتعذر الكلام عليه، صار يخاطبنا كتابة. كان يطلب منا كسراً صغيرة من الثلج يضعها في فمه لتذوب، وفي أحد الأيام وجدته يأخذ قطعة يضعها في فم سعد العبدالله ويضع الأخرى في فمي – ويكرر ذلك – وهو ينظر إلينا نظرة تقول: هل فهمتما ماذا أعني؟ وقلت في نفسي لعل ذلك يجعل الشيخ سعد العبدالله يغيّر خطه ويتبع مسيرة والده.
إلا أن المفاجأة كانت صعبة عليّ، ففي اليوم الذي توفي فيه عبدالله السالم بعد محاولة لمساعدته على التنفس أصيب سعد العبدالله بصدمة نفسية قوية، فلازمته خلالها حتى استعاد وضعه، وقبل أن أغادر الشعب طلب مني أن أمرّ على أخيه خالد العبدالله، الذي هو بدوره صدم من هول المصاب فذهبت إليه وبقيت معه حتى منتصف الليل. بعدها ذهبت إلى البيت مرهقاً. وجدت البيت مطوّقاً من قوى الأمن بسيارات ومصفحات والأهل في البيت محاصرون وأطفالي يبكون من الخوف، مما جعلني أنفجر من الغضب. ولما واجهت سعد العبدالله بذلك أطرق برأسه خجلاً ولم يجاوبني. هذا جزائي عنده وقد لازمتهم طوال شهر في الشعب تاركاً كل أعمالي، وهذا رده على وصيّة أبيه!
كانت إجراءات الدفن قد تمّت بسرعة عجيبة، ولم تتح الفرصة لمشاركة المسؤولين في الدول العربية والأجنبية الذين عرفوا عبدالله السالم وأحبوه، وعندما وصل هؤلاء إلى الكويت كان عليهم تهنئة صباح السالم بتولّيه الإمارة، وطوال ثلاثة أيام كاملة كان تلفزيون الكويت متفرغاً لنقل هذه التهاني وكأنه عرس كبير!
عبدالله المبارك وصل إلى الكويت مباشرة بعد موت عبدالله السالم، وقد واجهه جابر العلي بشراسة مفرطة طالباً منه مغادرة الكويت حالاً، وهذا ما حصل. والحقيقة أنني استغربت ذلك وقلت لجابر العلي: لماذا تصرفت بهذه الطريقة غير اللائقة، فقال لي: أنت ما تعرف شيئاً; هو ممكن يتصل بالإذاعة ويقول لهم أذيعوا بأن عبدالله المبارك سيستقبل المعزين عنده، ويعتبر ذلك مبايعة من الكويتيين له ويفرض نفسه علينا، فيجب أن لا أعطيه هذه الفرصة. والحقيقة أنني ذهلت لهذا التفكير! أين الدستور وأين مجلس الأمة، ومن يجرؤ على التعدي على النظام الدستوري في الكويت؟ إلا أنني اكتشفت صيف 1976 أنني كنت ساذجاً في تفكيري، عندما أُلغيت كل الحياة الدستورية بجرّة قلم وبيان أذيع من التلفزيون! وهذا ما سوف أتعرض له بالتفصيل في الجزء المقبل.
قبل الانتكاسة ولمّا تحسنت صحته، بدأ عبدالله السالم بالتفكير في السفر، لأخذ إجازة مطولة يقضيها في الهند كعادته، وقال لي: هذه المرة سوف تذهب معي. فقلت في نفسي كيف أرد عليه، أنا رجل متزوج وعندي عائلة لا أستطيع أن أغيب عنها كثيراً، وعندي عيادة أعتاش من ورائها لا أستطيع أن أهملها أكثر ولكن الوقت غير مناسب لأعتذر.
فترة مرضه الطويلة هذه وفّرت لنا جواً من الألفة أتاحت الفرصة لرفع الغطاء عن بعض الأمور الحساسة، حيث أكد لي، كما سبق وذكرت، أنه يتعاطف مع خطنا تماماً إلا أنه يختلف معنا في العلاقة مع العراق، والتعدي على حقوق الديانات الأخرى مثل قانون منع الخمرة عن المسيحيين، مما يخالف الدستور الذي ينص على حرية الأديان.
ومرة أثار موضوع عملي في وزارة الصحة وأنني لم أحترم العقد الذي وقعته له لمّا كان رئيساً لدائرة الصحة العامة بالالتزام بالخدمة في الصحة المدة نفسها التي أقضيها في الدراسة بعد أن أنقذني من اضطهاد «ويكلين» الإنجليزي المسؤول عن التربية في الكويت عندما كنت أدرس في بيروت. ولمّا قلت له إنني أنهيت المدة إلا شهوراً قليلة قال: أعرف ذلك، وسامحتك لأنني مطلع على ظروف وأسباب استقالتك.
كذلك أثار معي موضوع زواجي، وقال لي بأنه كان يمكنه منع زواجي، وكما يبدو بطلب من البعض الذين لم يوافقوا على هذا الزواج، وقال: «إلا أنني كنت معجباً بحبكم فلم أتدخل».
والطريف في هذه الأحاديث كلامه عن الملف الموجود عنده في مكتبه بقصر السيف والذي أعدّته المباحث الكويتية عني، وقال إنه يحتوي على أشياء كثيرة وصور مزوّرة، وعلى أني أنا وسمو الشيخ صباح الأحمد أوعزنا لخروتشوف ليتعرّض له عند وضع الحجر الأساسي للسد العالي. وقال إنه عندما يعود إلى الدوام سوف يطلعني على هذا الملف.
الحقيقة أنني أعرف طبيعة عمل أجهزة الأمن المباحثية كيف أنها تزور المعلومات، ولكن المفاجأة كانت لي هي لماذا يحشر اسم سمو الشيخ صباح الأحمد معي؟ أنا أعرف أنني مكروه من معظم أفراد عائلة الصباح لذلك فأجهزة الأمن تتبارى في تعزيز هذه الكراهية عند الصباح، ولكن كيف تجرؤ أجهزة الأمن على الدس على سمو الشيخ صباح الأحمد؟ هذا ما لم أستطع فهمه حتى الآن. ولمّا تولى صباح السالم الحكم وعدني بإطلاعي على الملف إلا أنه قال لي فيما بعد بأنه لم يعثر عليه، وقد فهمت أنه أثناء الاحتلال العراقي وجد في مكتب الشيخ سعد العبدالله، ولم أستطع حتى الآن معرفة من أخذه.

المؤامرة على عبدالله السالم

جريدة «الرأي العام» بتاريخ 14/11/1965، وبكلام ملغّم، كتبت تقول بأنه آن الأوان بسبب صحة عبدالله السالم أن يُعيَّن أمير جديد، وولي عهد جديد والناس كلها تعرف الجريدة وثقل صاحبها السياسي مما لا يسمح له إطلاقاً بأن يتطاول على عبدالله السالم ويطالب بإعفائه من منصبه، خصوصاً أن ابنه سعد العبدالله وزير للداخلية والدفاع! إذاً لا بد أن تكون هناك قوى في الأسرة متنفذة وراء هذه المقالة، ولعلها أطلقت هذه الفكرة كبالون اختبار لتقييم ردود الفعل عليها. هذا كان تصوري حول الموضوع.
فوجئت بعد بضعة أيام بالدكتور عبدالرزاق العدواني وهو يقول لي مستنكراً إنه تم الاتصال به لكونه من مجموعة الأطباء المشرفين على علاج عبدالله السالم، وطلب منه أن يوافق على إعداد تقرير طبي يقول بأن عبدالله السالم عاجز عن القيام بمهامه الدستورية تمهيداً لعزله. لم يقل لي من هي الجهة التي اتصلت به، فقلت له: اطمئن فأنا رئيس الفريق الطبي المعالج واللي فيه خير يتصل بي ويطرح عليّ الموضوع.
بالطبع لم يتصل بي أحد، وكما يبدو فإن الخطة قد تم التراجع عنها بسبب رد الفعل المتوقع. كان عبدالله السالم معزولاً عن الصحف، والذين يزورونه من غير الأطباء المعالجين اثنان فقط أحدهما من رجالات الكويت والثاني خادمه، أما أخته المفضلة بيبي السالم فكانت تتصل به تلفونياً، إلا أنني شعرت بأنه كان على اطلاع على الموضوع. مرة كنت جالساً معه حسب العادة فإذا بالباب يفتح ويطل منه صباح السالم ليسلم عليه كالعادة، فرأيت عبدالله السالم ينظر إليه بغضب شديد مما جعل صباح السالم يتراجع بسرعة ويغلق الباب وراءه، وكان ذلك آخر لقاء بين الاثنين، عندها تأكدت أنه على اطلاع على ما يجري، ولا شك أنه كان متأثراً من ذلك. بعدها حصلت النكسة الصحية، ففي صبيحة أحد الأيام كان الجو غائماً وممطراً بشكل خفيف فاستهواه المنظر فخرج بغياب الأطباء ليتمشى في حديقة البيت ليتبلل بالمطر الخفيف كما يفعل بعض كبار أهل الكويت استبشاراً وابتهاجاً بالمطر، فأصيب بذبحة ثانية قضت على الأمل بشفائه.
بعد وفاته بثلاثة أيام فقط صدرت الأوامر إلى جميع وزارات الدولة وإداراتها ومؤسساتها المستقلة بإزالة صور عبدالله السالم من جدران المكاتب.
كما صدرت الأوامر إلى وزارة الإعلام بعدم نشر أي خبر أو صورة له حتى الأغاني التي يذكر فيها اسمه أو تظهر فيها صورته، وصارت الإذاعة والتلفزيون يذيعان أغنية جديدة تقول: «راح وقت المزاح لما جانا صباح»، وترددها طوال النهار! وهكذا تم الحكم على عهد عبدالله السالم بأنه كان «حقبة مزاح»، وأن الفرحة العارمة عمت أهل الكويت بزوال هذا العهد الذي منع الصباح من ممارسة حقهم بالحكم المطلق، أي الشيخة المعروفة في الخليج. هذه الأغنية أثارت استياء المواطنين المحبين لعبدالله السالم، مما أجبر المسؤولين على التوقف عن إذاعتها.
لم أدرك عمق الكراهية عند بعض أفراد عائلة الصباح لعبدالله السالم إلا بعد وفاة صباح السالم وتولي جابر الأحمد الحكم، ونشوء الصراع بين جابر العلي وسعد العبدالله، وقد حُسم الأمر باجتماع العائلة لمصلحة سعد العبدالله. وقتها كان مجلس الأمة قد تم حله، عندما نقل لي عن أحد أفراد الأسرة قوله بأننا أسقطنا جابر العلي لأنه مثل عبدالله السالم الذي أخذ منا الإعلام والخيازرين والبراميل! أي الاستيلاء على أراضي الدولة. أي حرمهم من الشيخة التي كانوا يتمتعون بها في السابق. هنا أدركت سرّ كراهيتهم لعبدالله السالم، مع أنني أعتقد أن المقارنة بين الاثنين فيها ظلم كبير لعبدالله السالم.

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *