قبل حوالي ثمانية أشهر وصلتني دعوة منه لحضور مهرجان للتراث والألعاب المائية في المنطقة الغربية لأبوظبي، كانت المرّة الأولى التي أزور فيها هذا الجزء الجغرافي العزيز من دولة الإمارات والأولى، أيضا، التي التقي فيها رجلا معجونا بالثقافة والسياسة والإعلام والخلق الدمث! إنه المرحوم، بإذنه تعالى، فقيد الخليج محمد خلف المزروعي.
التزمت بتقاليد الضيافة العربية القديمة لمدة ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع استأذنته في المغادرة والعودة إلى الكويت، فابتسم وقال: «اقض معنا ليلة رابعة»! أعدّ لي برنامجا حافلا من الزيارات لكل شبر من «المنطقه الغربية» وبصحبة الصديق العزيز الزميل حمد المزروعي و.. مرّ اليوم الرابع، فاستأذنته في المغادرة، تكرر الموقف قائلا لي بابتسامته الهادئة: «ابق معنا يوما خامسا».
ربّما كنت الكويتي الوحيد الذي زار جزيرة «بني ياس»، تلك المحمية الرائعة على أطراف صحراء الربع الخالي القاسية، والتي بذر بذرتها الأولى والد الإمارات الحديثة الراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وجعلها شيئا من لاشيء!
و.. ومضى اليوم الخامس بأكمله في الجزيرة ثم عدنا إلى «الغربية» فاستأذنته في المغادرة، فجاء الجواب كالعادة: «خليك معانا ليوم.. سادس!»
كان الراحل قد أعدّ مخيما على شاطئ البحر قرب فندق «المرفأ» وجعله مكانا لكل ضيوف المهرجان التراثي من أهل الخليج والوطن العربي وبقية العالم، أزورهم صباحا لساعتين ومساء لثلاث ساعات لكن «بوخلف» يتواجد علي مدار الساعة، حتي إنني قلت له، مازحا: «بوخلف هل تعرف شيئا اسمه النوم»؟! فكان جوابه: «النوم هو حرق للأيام التي نحتاج فيها لكل ساعة من أجل بناء وطننا»! وانتهى اليوم السابع والثامن.. ورحل ضيوف المهرجان من أهل الخليج والعرب والأجانب إلى بلدانهم، وكلما استأذنته في المغادرة تكررت إجابته الباسمة حتى قلت للزميل حمد المزروعي: «أيام أخرى، وسوف استبدل جواز سفري الكويتي بالإماراتي!»
في اليوم العاشر وافق على مغادرتي لذلك المكان الساحر، لكن.. بشرط البقاء لأربعة أيام أخرى في العاصمة أبوظبي، حيث كان ديوانه العام في منزله هو «المخيم الثاني» لضيوفه!
قليلا ما يتحدث، كثيرا ما يستمع، فصادف وجودي في العاصمة افتتاح معرض الكتاب أبلغني بذلك راجيا مني حضوره، فذهبت وأذهلني ما شاهدت من اهتمام بالكلمة والحرف والكتاب، أبلغوني عن ذلك المشروع الثقافي العملاق لترجمة كنوز الثقافة العالمية من كل اللغات إلى العربية حتى تصل إلى كل ناطق بلغة «الضاد»!
كان الهدوء الذي يغلف شخصية الراحل محمد خلف المزروعي يخفي وراءه براكين من الرغبة في «حرق المراحل والقفز على الليالي والأيام» لاختصار الوقت والنهوض بالبشر، أولا، ثم.. بالحجر! سمح لي بالعودة إلى الكويت بعد خمسة عشر يوما من وصولي إلى أبوظبي تلبية لدعوة مدتها ثلاثة أيام، ثم تواعدنا على اللقاء في ديسمبر القادم لملتقي ثقافي آخر، لكنه أخلف ميعاده معي لأنه كان على موعد مع.. ربّه! رحمه الله رحمة واسعة. «إنّا لله وإنّا إليه راجعون»