الكويتييون وحكايتهم مع الماء.. حكاية عمرها من عمر هذا البلد الصغير «المحذوف» في أقصي شمال الخليج منذ نشأتها قبل أكثر من ثلاثمائة سنة، فكان المصدر الأساسي والرئيسي مياه شط العرب العراقية التي تنقلها السفن الخشبية إلى الميناء الكويتي الوحيد، وبعدها، على ظهور الدواب.. للمنازل!! ومع ذلك، سال لعاب الملك غازي بن فيصل الأول بن حسين بن علي الهاشمي – ملك العراق – على هذه الأرض «الجلحاء والملحاء» وقرر «ضمها» إلى أرض الرافدين!!
الكويتييون كانوا يضحكون على الحكومة – في الخمسينيات – حين كانت تعلن للعامة عن عزمها حفر الأبار بحثا عن المياه، وكلما حفرت بئرًا ظهر لنا نفط!! كنا نحزن – حكومة وشعبًا – حين يظهر هذا الذهب الأسود، فقد صرنا مثل «سعد» في «درب الزلق» وهو يقول لأخيه حسين: «بسنا.. فلوس، بسنا فلوس»، كانت دعابة في ذلك المسلسل الكوميدي، لكنها حقيقة أصلية وليست «فوتوشوب» في ذلك الزمن القديم! حتى جاء اليوم الموعود في منتصف الستينيات، وزفت الحكومة لنا البشرى، فارتفعت تكبيرات الرجال، وصعدت زغاريد النسوة، وهلل الأطفال في الشوارع عقب الإعلان عن اكتشاف حقل «الروضتين» ليتدفق الماء – أخيراً – من أرض الكويت، ولنشاهد لأول مرة ماءً عذبًا زلالاً – وليس سائلاً أسود ثقيلاً – يخرج من جوف… الأرض! لكنه ليس بالكثرة التي تسمح لنا أن نقول لبعضنا بعضًا.. «بسنا ماي.. بسنا ماي»!!
سألت – ذات يوم – أحد المسؤولين الكويتيين عن… «عدد المرات التي تقدمت بها الكويت للجارة الشقيقة العراق بطلب لتحويل مسار نهر شط العرب إلى الصحاري الكويتية العطشى» فقال لي – ضاحكاً – إنها بعدد الانقلابات والاغتيالات التي تمت عندهم منذ مقتل الملك غازي عام 1939 حتى يومنا.. هذا!، وكان يومنا هذا الذي يقصده هو عام 1993!! أخبرني وزير كهرباء كويتي راحل هو المرحوم – بإذنه وتعالى – الدكتور «حمود الرقبة» والذي كان – أيضاً – وزيراً للنفط، وأشرف على إطفاء (730) بئراً نفطياً أحرقها صدام حسين، وظلت مشتعلة لتسعة أشهر ووصل دخانها الأسود إلى جنوب الصين، أنه خلال اجتماع لوزراء الكهرباء والماء العرب عقد في مقر الجامعة العربية عام 1989 – وقبيل الغزو العراقي – جلس بقربه وزير الكهرباء والماء العراقي و.. لنترك الراحل الدكتور «حمود» يتكلم ويقول: «سلمت عليه وكنا في فترة استراحة قصيرة من الاجتماع، وقلت له مازحاً.. متى ستوافقون على طلبنا بتحويل مجرى مياه شط العرب إلى الكويت؟ إنه يضيع سدى وهو يصب في الخليج المالح، سنتكفل بكل التكاليف التي تدفع ولن تدفع بغداد فلساً واحداً، بل سندفع لكم إن أردتم ثمن المياه، سنشتريها منكم وبالسعر العالمي إن أردتم»!! يكمل الوزير الكويتي حديثه لي قائلاً.. «ضحك الوزير العراقي وقال لي – وبلهجة عراقية موغلة في المحلية – معالي الوزير… هسع الإمام الحسين سلام الله عليه، ابن بنت رسول الله، يعني جده النبي خاتم الأنبياء والمرسلين كان عطشان خطيه يريدن يشرب ماي ما إنطيناه ماي، ومات عطشان، هسه تريدون ننطي للكويتيين ماي»؟! وترجمة ذلك لغير الناطقين بلهجات أهل العراق والخليج هي: «إن كان الإمام الحسين عليه السلام حفيد خاتم الأنبياء والمرسلين قد مات من العطش في أرض العراق بعد أن منعوا عنه الماء وهو سيد شباب أهل الجنة، فكيف نعطي الماء… لأهل الكويت»؟!!
دارت الأيام والشهور والسنوات وقامت تركيا ببناء عشرات السدود على منبع مصب نهري دجلة والفرات، وكذلك فعلت سوريا التي تمر بها هذه المياه، ثم زادتها إيران «وشفطت» ما يجاورها من مياه شط العرب، فانخفض منسوبه، وعوض عن أن يصب في مياه الخليج المالحة، صارت مياه البحر المالحة تصب.. فيه!! زرت البصرة قبل الغزو بشهرين، ووجدت «بياع عصير ليمون» يبيع شيئاً يشبه «عصير الليمون»، تذوقته فإذا به «ملحًا أجاجًا» سألته عن السبب فقال.. «هذه مياهنا، وهذا شط عربنا»!! أضحكتني المفارقة، ففتحت باب سيارتي وأخرجت منها عدة زجاجات مياه معدنية صغيرة من مياه «الروضتين» أحضرتها لاستخدامي الخاص خلال الرحلة من الكويت، فتلقفها بفرح وكأنني أهديته.. رزمة دولارات!!
إنها .. «حوبة الكويت»!!